الأربعاء, يناير 8, 2025
spot_img
الرئيسيةتحليل سياسيأمريكا دولة مَارِقَة بامتياز

أمريكا دولة مَارِقَة بامتياز

مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تحليل_سياسي_محمد_فاروق_الإمام_أمريكا_دولة_مَارِقَة_بامتياز

الدولة المارقة أو المنحرفة وَصْفٌ لطالما أطلقه علماء السياسة الغربيون وساستهم على الدول التي تَخْرُجُ عن الإطار العام للمجتمع الدولي، وذهب كثير من الباحثين منذ سنوات بعيدة إلى تأكيد هذا المعنى، وقَدَّموا وَصْفاً إضافياً للدولة المنحرفة بأنها تلك التي تُشَكِّل تهديداً للمجتمع الدولي، وهناك وَصْفٌ للدولة المارقة أكثر مباشرة وشمولاً هو: ’’الدولة المارقة أو المنحرفة هي التي تنحرف عن الأعراف المقبولة ولا تحترم الدول الأخرى في تصرفاتها الدولية‘‘.

وبنظرة سريعة على الساحة العالمية، نجد أن أكثر دولة يمكن أن ينطبق عليها هذا الوصف هي الولايات المتحدة؛ التي تتزعم إطلاق هذا الوصف على كل من يخالفها من الدول، ويمكن القول إن سلوك الولايات المتحدة كدولة مارقة يعود، فعلياً، إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ عندما بدأت تَحِلُّ محل الإمبراطورية البريطانية كدولة استعمارية، وأسست ما يُسَمَّى ’’سي آي إيه‘‘ أو جهاز الاستخبارات القومي الذي عاث في الأرض فساداً بكل معنى الكلمة، وقد بدأ سلوك الولايات المتحدة كدولة منحرفة عن المجتمع الدولي ينكشف، بدرجةٍ أوضح، خلال رئاسة ترامب وما بعدها، فمثلا خلال عهد ترامب نقضت واشنطن تقريبا كل ما أبرمته إدارة سَلَفِهِ باراك أوباما من اتفاقات ومعاهدات، كان منها اتفاق المناخ والاتفاق النووي مع إيران ثم إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، مما جعلها تخرج عن الإطار الدولي العام ومصلحة الجانب الأكبر من المجموعة الدولية وتظهر عدم احترامها لبقية دول العالم.

لقد سقطت روسيا قَبْلَ أمريكا في أَتُون الإجرام وسفك الدماء، واعْتُبِرَتْ بنظر الشرعية الدولية أنها دولة مارقة باغية، عندما قادت حرباً مُدَمِّرَة على الشعب السوري عام 2015م نُصْرَةً للنظام السوري المجرم، الذي استباح دماء السوريين في حينها لأكثر من خمس سنوات، لأنه طالب بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية بأسلوب حضاري سلمي، راح ضحيتها نحو مليون سوري وأكثر من نصف مليون مُعَوَّق وجريح، واعتقال وسجن ما يزيد على نصف مليون سوري، وتدمير الكثير من المدن والبلدات والقرى، وما تحويه من بُنَى تحتية ومؤسسات ومدارس وجامعات ومساجد وكنائس ومعالم تاريخية، وتهجير نصف الشعب السوري بين لاجئ ونازح إلى مختلف بلدان العالم، كل ذلك حتى لا يسقط النظام المجرم الذي تقوده عصابة مجرمة حاقدة، على رأسها مجرم الحرب بشار الأسد، وقد ابتلى الله الروس بحرب عدوانية شَنَّتْهَا على جارتها أوكرانيا، لتغوص في وحل تلك الدولة التي تدافع بشجاعة عن أرضها وحدودها.

أما الولايات المتحدة الأمريكية التي صدعت رأس العالم بدعوى ’’الدول المارقة‘‘، وهي تلاحق أنظمة رافضة لهيمنتها الإمبرياليّة، ولَعِبْ دور الحارس لمصالحها المحلية والإقليمية، بينما تُشهر أمريكا شعارات تهديد السلام الدولي وانتهاك حقوق الإنسان ومحاربة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل ذرائع للإطاحة بها، بعد شيطنتها سياسيّاً وإعلاميّاً وأخلاقيّاً أمام الرأي العام الدولي.

غير أن الحقيقة القائمة على الأرض منذ نصف قرن على الأقلّ، هي أن أكبر دولة مارقة في التاريخ المعاصر هي الولايات المتحدة الأمريكية وليس غيرها، باعتبار أن المعيار الرئيس في تصنيف الكيانات الدوليّة هو مدى التزامها بالقوانين الإنسانية وقرارات الشرعية الأمميّة.

الوقائع تثبت أنَّ أمريكا وراء صناعة الإرهاب الدولي في أكثر من مكان، سواء عن طريق مخابراتها الأمنية، لأهداف تقع على الأجندة الاستراتيجية، أو كَرَدِّ فعلٍ على ممارساتها العنصريّة والإنجيلو – صهيونية.

أمريكا هي أول دولة تحتقر القانون الدولي، بدعمها للكيان الصهيوني منذ العام 1948م خارج المواثيق الأمميّة، مُستغلّةً نفوذها، بامتياز ’’الفيتو‘‘، داخل مجلس الأمن، لتعطيل حماية حقوق الإنسان في فلسطين منذ عقود.

الدولة المارقة أمريكا هي التي ترفض منح الفلسطينيين حقهم الطبيعي في إقامة دولة مُستقلة، وفق قرار التقسيم الأممي الجائر نفسه، بل إنها تَقِفُ عَقَبَةً أمامها حتّى في نَيْلِ العضوية الكاملة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة.

الولايات المتحدة هي التي قادت أكبر الانقلابات العسكرية الدموية خارج حدودها عَبْرَ كل القارات، لإسقاط أعدائها وتنصيب عملائها، خدمة لمصالحها الحيويّة الضيقة، منذ عهد الحرب الباردة، وما زال دورها التدميري في حق الآخرين متواصلا عبر هندسة الخراب والفشل في أقاليم تعتبرها معاديةً لها، مثلما حصل في العراق وأفغانستان، ليس بهدف استئصال الإرهاب ونشر الديمقراطية كما تَدَّعِي، بل لتكريس احتكار مصادر الطاقة الأحفوريّة وتأمين ممراتها، في ظل التنافس الدولي على منطقة الشرق العربي وبحر قزوين.

لا يمكن حصر مظاهر الانتهاك الأمريكي الصارخ للقانون الدولي في هذه المساحة المحدودة، لذلك ما يهمنا أكثر ضمن سياق الحرب العدوانية الدامية على غَزَّةَ؛ هو مشاركة الولايات المتحدة بشكل علني سافر في كل جرائم الاحتلال ضد الإنسانية، من دون أن تأبه بِرَدِّ فعل أي طرفٍ في المجتمع الدولي، بما فيه جهاز الأمم المتحدة ومجلس أمنها المُصادرة قراراته على يد الدولتين المارقتين روسيا وأمريكا.

الدولة المارقة أمريكا هي من دفعت بـ ’’حق الفيتو‘‘ ضد مشروع قرار عربي لوقف إنساني لإطلاق النار في غَزَّةَ، مُؤَيَّدَاً من 13 عضواً، وامتناع فقط ربيبتها المملكة المتحدة، وهو ثاني اعتراض لها في أَقَلِّ من شهرٍ واحد، بعد إسقاطها في 18 أكتوبر 2023م لمشروع قرار روسي مماثل.

عندما تتدخل أمريكا لإبطال وقف إطلاق النار إنسانيًّاً في غَزَّةَ، مع إقرار العالم أجمع بأنّ ما تقترفه ’’إسرائيل‘‘ هو تجاوز صارخ لكل مبادئ القانون الدولي وإبادة جماعية، بقتلها للأبرياء واستهداف المشافي والإسعاف والمدارس والصحفيين وهيئات الإغاثة والمباني السكنيّة ومنع دخول أيّ مساعدات إنسانيّة، فهذا يعني أنَّ واشنطن تطلب من جيش الاحتلال إبادة الفلسطينيين وتهجيرهم بِكُلِّ الطُرق، لاستكمال المشروع الاستيطاني الصهيوني الاحتلالي، خلافًا لما تُبديه من تصريحات مخادعة في هذا الاتجاه.

والدليل على ذلك، أن الولايات المتحدة لم تكتفِ فقط بإبطال قرارات مجلس الأمن، بل إنها مستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023م في تزويد الكيان الصهيوني بترسانة السلاح الفَتَّاك، للإجهاز على المدنيين وتدمير كل شيء في القطاع، حتى يصبح غير صالح للعيش أو قابلاً للحياة، فقد كشفت وزارة الدفاع الإسرائيلية استلامها أكثر من 10 آلاف طن من القنابل المدمرة.

وأخيراً فهذه هي أمريكا الدولة المارقة تقف في وجه العدالة الدولية ومنعها من إصدار أي قرار يُجَرِّمُ دولة الاحتلال الصهيوني على ما ترتكبه من جرائم في غَزَّةَ، وتهدد أمريكا باتخاذ إجراءات قاسية ضد قضاة محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية.

لقد صَدَقَ المُفَكِّرُ الأمريكي، نعوم تشومسكي في كتابه ’’الدولة المارقة‘‘، عندما انتقد بلاده بصورة لاذعة، على خلفية تقويضها للديمقراطية في عديد مِنَ الدول ودعم الانقلابات في مناطق أخرى، واستخدام القوة دون وسائل الحوار، فضلا عن تجاهلها للقانون وكل الأعراف الدولية وممارسة العنف على نطاق واسع، حتّى إنه وضع تلك السلوكيات في سجلّ واحد مع تاريخ هتلر وستالين.

إنّ هذه الغطرسة العدوانيّة لن تُكَرِّسَ الهيمنة الأمريكية المطلقة على مجرى التاريخ الحالي، بل ستدفع بالآخرين للتكتلات الإقليمية والدولية، وتُعَجّل بالضغط في اتجاه بناء نظام دولي جديد ومتعدد الأقطاب، ينتهي فيه جبروت الولايات المتحدة.

كما أنّ هذا السلوك الأمريكي المتجاوز للقانون الدولي، ينبغي أن يدفع بكل المقاومين لامتهان الإنسان، دُوَلَاً ونُخَبَاً وشعوباً، إلى تعرية أمريكا والعمل سلميًّاً على تقويض مصالحها في كل مكان، لأنها تُمَثِّلُ اليوم رأس الشّرور في العالم.

أخيراً يتساءل المرء: هل في العالم دولة أكثر عُنفاً ودمويةً وخروجاً على النظام الدولي من الولايات المتحدة؟ وهل في العالم دولة أكثر تحريضاً وتنفيذاً للانقلابات العسكرية من الولايات المتحدة، القائمة تطول ولكن من أراد أن يعرف إجابات موثقة فإن الكتب المعترف بها في هذا الصدد أكثر من أنْ تُعَدْ، ومنها ما كتبه أمريكيون من الساسة أو ممن شاركوا بأنفسهم في مؤامراتٍ لقلب أنظمة حُكْمٍ ديمقراطي وتثبيت أخرى غير ديمقراطية، بطريقة قطَّاع الطرق ورجال العصابات، ومن هؤلاء مايلز كوبلاند، المسؤول السابق في السي آي إيه وكتابه التاريخي
’’لعبة الأمم‘‘ الصادر عام 1969م ويتناول الكيفية التي تُدير بها الولايات المتحدة العالم، وجون بيركنز العميل الأمريكي وكتابه الشهير ’’اعترافات قاتل اقتصادي‘‘ الصادر عام 2004م ويشرح بأحداث واقعية كفاعل وشاهد على التاريخ؛ الكيفية الاقتصادية والعسكرية التي يتبعها الأمريكيون للسيطرة على العالم، وللاحتفاظ بهذه السيطرة إلى ما لا نهاية.

المراجع

– الشروق أون لاين – 10/12/2023م.

– الشرق – 29/11/2023م.

مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تحليل_سياسي_محمد_فاروق_الإمام_أمريكا_دولة_مَارِقَة_بامتياز

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات