مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_دراسات_اقتصادية_عبد_الحافظ_الصاوي_تحديات_المرحلة_الانتقالية_والهوية_الاقتصادية_في_سورية_الجديدة
تحديات المرحلة الانتقالية والهوية الاقتصادية في سورية الجديدة بِقلم الخبير الاقتصادي الأستاذ عبد الحافظ الصاوي الذي شارك مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية في وقتٍ مُبَكّر عام ٢٠١٢م في مؤتمر وورشات عمل مع ثُلَّة من الخبراء للتحذير من خطورة (المشروع الإيراني في المنطقة العربية والإسلامية) والذي صدر في كتاب مهم قدَّم له الدكتور عبدالله النفيسي مقدمة عالية الأهمية تُكتب بماء الذهب.
تبدأ سورية الجديدة في المرحلة المُقبلة إعادة بناء مؤسساتها بشكل عام، والاقتصادية منها بشكل خاص، بعد زوال العهد البائد لآل الأسد، وسِطَ حديث عن انعقاد مؤتمر وطني، والنظر في صياغة دستور جديد، لينقل البلد إلى عهد يتسم بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وثمَّة تحديات عدّة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي في سورية تجعل القائمين على الأمر يتمهلون في ما يخص الفترة الانتقالية، ويُركِّزون على خيارات جيدة لإدارة المرحلة الانتقالية، ومن تلك التحديات ما نُشِرَ بتقرير صادر عن البنك الدولي في مايو / أيار 2024م حول مستوى الرفاه لِلأُسَر السورية، من أن نسب الفقر بين السوريين تصل إلى 69% من إجمالي السكان، وأن الفقر المُدقع بلغت نسبته 27%..
وتوجد تحديات أخرى لا بُدَّ من أن تُؤخذ في الاعتبار حول عدالة توزيع الثروة في الحقبة الجديدة، وضرورة أن تكون السياسات الاقتصادية أكثر انحيازاً للمتضررين من العهد البائد لبشار الأسد، وبخاصة المتضررين من تداعيات الفترة التي امتدت من 2012م إلى 2024م.
يُضاف ذلك إلى متطلبات إعادة الإعمار التي قدَّرها البعض بنحو 300 مليار دولار، وتأتي قضية إعادة بناء البيوت المُهدمَّة جراء قصف طائرات الأسد ومعاونيه على رأس أجندة إعادة الأعمار، وامتلاك برامج دعم لمساعدة الأفراد لبناء بيوتهم أو ترميمها.
كذلك تحتاج البنية التشريعية تعديلات متنوعة، وإن كانت الأيام الأولى لحكومة تصريف الأعمال برئاسة محمد البشير قد اتخذت خلالها جملة قرارات بشأن تيسير الأجواء الاقتصادية، وعلى رأسها ما يتعلق بتحرير سعر الصرف وتداول النقد الأجنبي، وكذلك بعض القرارات الخاصة بالتعاملات الجمركية.
خيار السوق الحرة:
تسود المناخ الإقليمي والدولي توجهات نحو اقتصاد السوق الحرة، لكن ثَمَّة تداعيات تجعل للعديد من الدول خصوصيات تتعلق بِحُرِيَّةِ التجارة أو التعامل مع الاستثمارات الأجنبية، وكذلك وجود دور للدولة في النشاط الاقتصادي، إما لتداعيات اقتصادية واجتماعية أو أمور تخص الأمن القومي.
فروسيا عقب تفكك الاتحاد السوفياتي عاشت حالة من الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عهد يلتسن، لكن مع مجيء بوتين تمت إعادة ترتيب الأوضاع بشكل عام والأوضاع الاقتصادية بشكل خاص، فوجدنا أن روسيا التي تسمح بدور كبير للقطاع الخاص أعادت تموضعها في ما يخص وجود دور معتبر للدولة في النشاط الاقتصادي.
يَذْكُر الاقتصادي الإنجليزي جون تشانج في كتابه ’’رَكْلِ السُّلم بعيداً.. استراتيجيات التنمية والتطور قديماً‘‘ أن الدول المتقدمة في بدايتها بطريق التنمية احتاطت كثيراً في ما يخص حرية التجارة وحركة رؤوس الأموال، ولم تقبل بِحُرِيَّةِ السوق إلا بعد أن تمكّنت من ذلك على المستويين العام والخاص.
يمكننا أن نقول إن حالة سورية بعد ثورتها التي أطاحت بالدكتاتور بشار الأسد يمكنها أن تتحدث عن توجهها نحو السوق الحرة، لكن عَبْرَ مراحل انتقالية تؤهل الاقتصاد والمجتمع تدريجيا.
خصوصية الحالة السورية:
أدَّت الفترة التي حمل فيها الأسد ونظامه السلاح ضد الشعب السوري – واضطر جزء من المعارضة إلى حمل السلاح ومواجهته والإطاحة به في نهاية المطاف – إلى تراجع العديد من المؤشرات الاقتصادية للبلاد، من تراجع مُعدلات النمو، وتقلّص قيمة الناتج إلى أقل من 8 مليارات دولار، بعد أن كان حوالي 61 مليار دولار تقريباً في عام 2010م.
ونقلت وسائل إعلام عن رئيس غرفة تجارة دمشق باسل الحموي قوله إن ’’الحكومة السورية الجديدة أبلغت رجال الأعمال أنها ستتبنّى نموذج السوق الحرة وسَتدمج البلاد في الاقتصاد العالمي، في تحول كبير عن سيطرة الدولة على الاقتصاد طوال عقود‘‘.
وإن كان هذا التصريح يحمل نوعاً من التفاؤل للتجار، إلا أنه يحمل العديد من التحديات على الصعيد التنموي، فالبلاد خرجت من حرب، وثمَّة نقص شديد في العديد من السلع والخدمات، وبخاصة في المناطق التي كان يسيطر عليها نظام الأسد.
وعادة ما يميل التجار للربح السريع، وما يعنيهم معدلات الربح واستمرارها، سواء كان ذلك نتيجة العمل في سلع محلية أو مستوردة، لكن هذه النظرة غير معتبرة في إطار البناء التنموي لبلد يبحث عن الاستقرار والبناء بعد حالة الحرب التي مرَّ بها.
فالنشاط الإنتاجي عادة ما يوفّر فُرص عمل حقيقية ومستقرة، فضلاً عن مساهمته في زيادة القيمة المضافة لأي اقتصاد، ويساعد في بناء ناتج محلي قوي، لذلك فكلما اعتمدت العملية الإنتاجية على مستلزمات إنتاج محلية ويد عاملة ماهرة وتمويل ذاتي أو محلي أدى ذلك إلى ازدهار اقتصادي.
والسماح بالسوق الحرة في مجالات التجارة والاستثمار والانفتاح على العالم الخارجي في الوضع الحالي للاقتصاد السوري سيجعل من البلاد مجرد سوق للمنتجات الأجنبية، ولن يجعل القطاع الإنتاجي بالبلاد في حالة تسمح له بالمنافسة مع المنتجات الأجنبية، بل قد يزهد المنتجون في نشاطهم، نتيجة عدم القدرة على المنافسة وضعف المردود على نشاطهم الإنتاجي.
لذلك يستلزم الأمر وجود خطة تنمية تهدف إلى بناء القطاعات الإنتاجية، وتقديم الدعم اللازم لها، وبخاصة في ما يتعلق بالتعريفات الجمركية، وتنظيم مساهمات الاستثمارات الأجنبية، سواء في المجالات الخدمية أو الإنتاجية.
فثمَّة مقومات إيجابية يتسم بها سوق العمل السوري، من وجود سلوك يحترم العمل كقيمة لدى شريحة كبيرة من السكان، وكذلك الجودة في ما يقدم من أعمال وخدمات وبخاصة القطاعات الخدمية والمهنية.
وعلينا أن نعي أن البيئة الاقتصادية في سورية مشوهة نتيجة ممارسات نظام الأسد؛ فالقطاع الخاص السوري يعاني مشكلات كبيرة، منها ضعف القدرات التمويلية، بسبب أن الدولة كانت تسيطر على أغلب النشاط الإنتاجي، وما سمح به من مساحة للقطاع الخاص كانت ممنوحة للموالين للنظام وِفْقَ ’’قاعدة العطاء مقابل الولاء‘‘.
وحينما ننظر إلى ما هو مُتاح من بيانات عن الاقتصاد السوري، نجد أن الائتمان الممنوح للقطاع الخاص في عام 2010م كان بحدود 20% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين كانت هذه النسبة في العام نفسه بمصر 36%، وذلك وِفْقَ أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي.
فتصحيح هذه البيئة المُشوّهة على الصعيد الاقتصادي يحتاج إلى إعادة ترتيب لتتجه نحو الوجهة الصحيحة، وألا يُكرّس الوضع الجديد لرأسمالية متوحشة بزعم تبنّي السوق الحرة.
فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب إبان ولايته الأولى، وخوضه لحرب تجارية مع الصين، وتضرر القطاع الزراعي الأمريكي من الضرائب التي فرضتها عليه الصين؛ وجدناه يقدم 14 مليار دولار دعماً للمزارعين المتضررين.
ويمكن القول إن إعادة بناء الاقتصاد الخاص السوري ليكون مؤهلاً للسوق الحرة والتحديات التي تفرضها على الفاعلين فيها يعدّ من المتطلبات الضرورية أمام الحكومة السورية الحالية أو الحكومات التالية لها.
ومن المُتَوَقّع أن يتطلَّب الأمر وقتاً، لوجود كيانات اقتصادية ومالية، متوسطة وكبيرة تناسب الوجود في السوق الحرة والاندماج في الاقتصاد العالمي، أما الحديث عن كيانات صغيرة أو متناهية الصغر فهذه الكيانات لا تعمل في الفراغ، لكن يشترط لنجاحها وبخاصة في الجانب الصناعي والإنتاجي أن تكون مرتبطة بكيانات كبيرة أو متوسطة.
النظام المختلط:
الظروف التي ستعيشها سورية، بفرض الوصول لحالة من الاستقرار السياسي والأمني، تتطلب على الأقل عَقداً من الزمن حتى تنهض اقتصاديا، ولذلك يتطلب الأمر تبني هوية اقتصادية مختلطة تجمع بين وجود القطاعين العام والخاص، بحيث يعمل القطاع العام وفق أُسُس اقتصادية، وفي الوقت ذاته تُتاح الفرص لبناء قطاع خاص قوي يُعطى مساحات في النشاط الاقتصادي تزيد من إمكاناته في المشاركة والمنافسة على الصعيدين المحلي والخارجي.
ومن شأن وجود القطاع العام في النشاط الاقتصادي، بشرط أن يعمل وِفْقَ أُسُس اقتصادية، أن يحدث توازنا ومنافسة مع القطاع الخاص؛ فتفرّد هذا القطاع يُسهّل ممارسة الاحتكار ويؤدي إلى فرض أنماط معينة على المستهلكين.
وإن كان لا بُدَّ من تبنّي السوق الحرة، فلتتجه سورية إلى نموذج ما يُعرف بالرأسمالية الاجتماعية التي تحافظ على حقوق الناس في حدّها الذي يحفظ عليهم كرامتهم، وتنال من أرباح الرأسماليين بما يُحدث توازناً مجتمعيا، مثل الضرائب التصاعدية، ومنع الاحتكار، وتنظيم المنافسة، ووجود تشريعات تمنع تضارب المصالح.
__________
رابط المقال الأصل:
https://www.aljazeera.net/ebusiness/2024/12/26/challenges-transitional-phase-economic-identity-syria
هذه الدراسة تُعَبِّرُ عن رأي كاتبها ولا تُعَبِّرُ بالضرورة عن رأي الموقع.
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_دراسات_اقتصادية_عبد_الحافظ_الصاوي_تحديات_المرحلة_الانتقالية_والهوية_الاقتصادية_في_سورية_الجديدة