مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_سياسية_منصف_المرزوقي_سورية_زهرة_الربيع_العربي_ودروس_المرحلة
لم يُكلفني سوري واحد بتوجيه أي رسالة باسمه، ولست الناطق الرسمي باسم الأمة. كل ما في الأمر أننا أمام أحداث هائلة حُبلى بالدروس المُبطنَّة والواضحة، أردت أن أضعها في هذا القالب الصحفي الأدبي. وكل أملي أن يجد فيها الكثير من العرب والسوريين بعضاً من هواجسهم وأفكارهم وأحلامهم.
أولا- رسائل السوريين للشعوب العربية:
لم يتعرض شعب عربي وغير عربي ابْتُلي بالاستبداد لما تعرضنا له نحن. رُمينا بالقنابل والبراميل المتفجرة، قُتلنا بمئات الآلاف، هُجّرنا بالملايين في كل أصقاع الأرض، وولدت لنا أجيال من الأطفال في السجون. ذروة معاناتنا وأبلغ مثال لها مأساة القديسة الطاهرة العفيفة الشريفة التي دخلت السجن عذراء في التاسعة عشرة من عمرها وخرجت في الثانية والثلاثين بعدد من الأطفال لا تعرف آباءهم.. ومع ذلك لم نرضخ، لم نستسلم، لم نيأس. ها نحن نستأنف ثورتنا المجيدة، أجمل زهرات الربيع العربي التي تصور الهمج القدرة على إجهاضها إلى الأبد. لسنا أوصياء عليكم، وليست مهمتنا إعطاء الدروس، لكن ثوراتنا واحدة وغرفة العمليات التي أجهضتها في الماضي واحدة، ومستقبلنا واحد. ماذا تنتظرون لإتمام ما لم يكتمل، لتحقيق ما يجب تحقيقه، حتى يكون للأجيال العربية المقبلة مستقبل؟
لكل الطغاة: ثلاثية حكم: (عُنف الأجهزة، فساد الأقارب والمقربين، والتضليل الإعلامي) هي الوصفة التي ذهب سفاح دمشق إلى أبعد شوط فيها، في مستوى العُنف والهمجية والوحشية والسادية؛ لإرهاب المجتمع. ومع ذلك هشّمنا تماثيله، وتجولنا في قصره، وأجبرناه على الفرار مستجيراً بسادته. أقصى العُنف لا يفعل سوى تأخير النهاية البائسة للاستبداد، وأنه عليكم عوض ممارسة الإنكار وسياسة الهروب إلى الأمام قبل فوات الأوان، لجم شراسة الأجهزة القمعية، وإطلاق سراح المساجين السياسيين، والسعي لمصالحة حقيقية مع الشعوب، والقبول بالإصلاحات الموجعة، والاستعداد لرحيل منظم وسلمي يقي المجتمعات من كوارث لا سبب لها.
لأنصار المقاومة والممانعة: رفضتم لنا الحق في الحرية وفي الكرامة؛ بِحُجَّة أن الدكتاتورية السورية حالة خاصة. قلتم إن ثورتنا المجيدة في 2011م مؤامرة كونية هدفها ضرب محور المقاومة والممانعة والنضال ضد الإمبريالية والصهيونية. الآن، وبغض النظر عن الثمن الرهيب لحُكْمِ الأسد الذي لا تولون له أدنى قيمة. الآن وقد اتضح للجميع أن بطل الممانعة قُتَلَ الآلاف من الفلسطينيين، ومئات الآلاف من السوريين، ولم يُطْلق رصاصة واحدة على إسرائيل. والآن وقد رأيتم أنه لم يحرك إصبعاً لِنُصرة غَزَّةَ وهي تُباد. والآن وقد رأيتم أنه غدر حتى بحليفه حزب الله، حيث لم يطلق ولو تصريحاً ناريا للدفاع عنه. والآن وقد فرَّ كالجبان من ساحة المعركة تاركاً وراءه شبيحته للمحاسبة. والآن وقد تجندت إسرائيل لاحتلال كل المناطق التي كان حارسها الوفي المكلف بأمنها. ماذا تقولون؟ أننا لا نفهم شيئاً في السياسة، وأن كل هذه التحركات مؤامرة تركية صهيونية أمريكية مريخية عُطاردية للتخلص من المقاوم الأكبر الذي كان يحتفظ بحق الرد، وتحرير فلسطين في الوقت المناسب؟ بل وأننا شعب ناكر للجميل خائن وعميل لا نستأهل أن يحكمنا حافظ الثاني.
للقوى الإقليمية: تعودتم الجلوس حول الطاولة وسورية هي التي دائماً على قائمة الطعام. إلى عشية رحيل الطاغية وأنتم تقررون مصيرنا في غياب أي سوري. لكن يبدو أننا فاجأناكم جميعاً بسرعة تحركنا وانتفاضة شعبنا. ما زلتم في بداية المفاجآت. غَرّكم منا ومن أمتنا لحظات الضعف التي نَمُرُّ بها ونسيتم من نحن عَبْرَ التاريخ وأي مكانة سنحتل عندما ننتهي من ثوراتنا الداخلية، وإعادة ترتيب أوضاعنا، والخاصية الكبرى الأولى للقوة التي لا تؤمنون إلا بها أن ميزانها لا يثبت أبداً على حال.
ثانيا- رسائل العرب إلى السوريين:
كم نتألم ونحزن ونتأسف لكل ما عانيتم من تقتيل وتهجير وتعذيب. كم نشعر بالعار، نحن الرجال كل الرجال، لما لحق حرائركم اللواتي تعرضن لصنوف التنكيل والتعذيب بالآلاف في سجون الطاغية. نُقبّل أرجلهن ونعتذر لهن ونطلب منهن العفو والمعذرة. كم نخجل من حكوماتنا التي أغلقت أبواب بلداننا في وجوهكم أنتم أكثر شعوبنا حفاوة وكرماً مع الغرباء. كم نفخر بكم، كم نعتز بانتصاركم، كم نحبكم. وأيضا كم نخشى عليكم من تجدد الكابوس في شكل آخر. خشيتنا هذه، وكل القوى الإقليمية، تحضّر السكاكين لكم، هي التي تدفع بنا لتقديم هذه النصائح تفادياً لأخطاء ارتكبناها بِحُسن نية بعد انطلاق ثورات الربيع، ودفعنا ثمنها باهظًا ولا نريدكم أن تدفعوه مرة أخرى. للانتصار على كل المتربصين بثورتكم العظيمة، استثمروا الغلطات التي وَقَعَنَا فيها لتتعلموا منها حتى تسرعوا بالنصر وتكونوا الشرارة التي سيتجدد منها اللهب الذي سيحرق أنظمة الفساد والقمع والتضليل في وطننا العربي المنكوب.
غلطة ثورتي تونس والسودان:
إنها قاعدة في السياسة تكاد تكون بمثابة القانون الذي يتحكم في حركة الشمس والقمر، ويمكن سنّها كالتالي: كلما طالت المرحلة الانتقالية، من انتصار الثورة إلى تثبيت النظام السياسي الجديد – أيًا كانت الحجج والمعاذير-، أُعطِيَ الوقت لقوى الثورة المضادة لتنظيم صفوفها. كلما زاد تدهور الاقتصاد، تفاقمت معاناة الناس وتزايد إحباطهم وفقدهم الآمال في الثورة، وضعفت حظوظ الثورة في التمكن والاستقرار. معنى هذا أن الخيار بين مصلحة السياسيين في أخذ كل وقت العراك والصفقات، ومصلحة الوطن في تثبيت الاستقرار بمنتهى السرعة. أعترف بأنني أصبت بالفزع عندما سمعت من الإخوة السوريين من يتحدث عن فترة انتقالية بثمانية عشر شهراً. وكنت قد نبَّهت الإخوة السودانيين بعد نهاية حُكْمِ البشير إلى خطورة المرحلة الانتقالية الطويلة وتمّ ما كنت أخشاه. رجاءً، إخوتنا، دستور توافقي وانتخابات رئاسية وتشريعية وإقليمية وحكومة كفاءات سياسية تقنية لاستقرار كفيل بعودة العجلة الاقتصادية بأسرع ما يمكن، وإلا فستقدمون بإطالة فترة النقاشات البيزنطية سورية مجدداً على قائمة طعام القوى الإقليمية.
غلطة الثورة التونسية:
نعم وألف نعم لكل مبادرات التهدئة والطمأنة لكل مكوّنات الشعب السوري وخاصة إخوتنا العَلَوِيِّين، وتهانينا الحارَّة لما أبدت قوات الثورة من حرصٍ على ألا يحدث أي انتقام. كل هذا مشرف ونبيل ومطمئن، لكن إياكم من متلازمة ’’بوس خوك‘‘ التي انتهجناها في تونس؛ أي طي صفحة الإجرام في حق شعبنا، وخاصة التعذيب بِحُجَّة المحافظة على الوحدة الوطنية. هذا خطأ كبير أدى تحت اسم العدالة الانتقالية (التي أعترف بأنني كنت أول مسؤول عن انتصابها وعملها) إلى إفلات المجرمين من كل عقابٍ وانخراطهم في تدمير الثورة، وإلى عدم تعويض الضحايا، وأخيراً إلى انتهاء رئيسة مؤسسة العدالة الانتقالية في السجن بعد انتصار الثورة المضادة والانقلاب على الدستور والشرعية. ليكن شعاركم ’’لا عدالة انتقامية ولا عدالة انتقالية.. العدالة وبس‘‘؛ أي عدالة تشمل رؤوس النظام وكبار المسؤولين عن القمع والسجن واغتصاب الحرائر، وألا تكون كمحاكم المهداوي في العراق والعشماوي في مصر؛ أي تمثيليات سخيفة وحبل الجلاد جاهز قبل الحُكْمِ. يجب أن تكون محاكمات عادلة شفافة بحضور مراقبين دوليين مُوَثَّقَة بالحجج والبراهين، وتأخذ كل الوقت الضروري. هكذا لن يتم فقط توثيق التاريخ وإنصاف الضحايا وإنما بناء أولى أسس دولة القانون.
غلطة الثورة الليبية:
تركت الثورة نفسها تحت رحمة قوى عسكرية متصارعة وحَّدَ بينها هدف الإطاحة بالدكتاتور، وفرق بينها تباين المطامح السياسية والشخصية، فانتهى الأمر بتقسيم فعلي للبلاد حسب مناطق نفوذ هذه القوة أو تلك. وها هي ليبيا الحبيبة مُقسمة فعلياً إلى دولتين على الأقل. إن ذلك ما يجب تفاديه بكل وسائل الدبلوماسية والتفاوض والتنازل، لكن يجب عدم رفض استعمال القوة لفرض سلطة عسكرية واحدة، لأن كل تساهل في مبدأ وحدة القيادة العسكرية يعني تعبيد الطريق للحرب الأهلية والفوضى المدمرة، وعودة التدخل الخارجي بكل وقاحة.
أخيراً وليس آخراً لِيُسمح لي برسالة خاصة إلى الجيل الجديد من القادة العرب عموماً والسوريين خصوصاً: حتى لا تتواصل ولا تتكرر المآسي التي عرفتها شعوبنا، ثمة ثورة ذهنية يجب أن تحصل داخل العقل السياسي العربي مستقبلاً. يكفي ما أضعنا من زمن التاريخ، ويكفي ما دفعت شعوبنا من دماء ودموع ثمناً لخيارات سياسية خاطئة، وأيدولوجيات غبية وشخصيات مريضة. تجاوزت الأحداث والتجارب التقسيمات والثنائيات التي عشنا عليها عقوداً: رجعي – تقدمي، قومي – انفصالي، إسلامي – علماني، الخطّ الفاصل اليوم هو بين الاستبداد والديمقراطية ولا شيء آخر. أي بين الاستبداديين أكانوا علمانيين أو إسلاميين، وبين الديمقراطيين لا يهم أن يكونوا علمانيين أو إسلاميين. الديمقراطية التي يجب أن تَحكم الوطن العربي ليست نسخة طبق الأصل من الديمقراطية الغربية. هي ديمقراطية سيادية – غير تابعة للغرب – اجتماعية – الحرية والعدالة الاجتماعية بالنسبة لها وجهان نفس قطعة النقد، مواطنية أي مبنية على الحريات الفردية والجماعية والمساواة بين كل مكوّنات المجتمع، وهو ما يعطي للمواطنة فحواها الحقيقي وليس التضليلي. أخيراً لا آخراً هي ديمقراطية اتحادية، هدفها الأخير بناء اتحاد بين الشعوب العربية الحرة ودولها المستقلة، كما نجحت في ذلك أوروبا بعد القضاء على النَّازيَّة والفاشية والشيوعية. البُعد الأعمق هو تَخَلُّص العقل السياسي العربي من السُّم الزعاف الذي يمثله البحث عن الرجل القوي؛ أي الرجل العنيف، والحزب القوي والأيديولوجيا التي لا يأتيها الباطل من خلفها وأمامها. كل هذه الأوهام هي سبب خراب دولنا وشعوبنا. لن نتحرر ولن نحقق شيئاً ولن نستعيد مكانتنا بين الأمم إلا عندما يصبح بديهياً لكل عربي، أن قوة الشعوب في قوة المبادئ والقوانين والمؤسسات الديمقراطية التي تستخدم الأشخاص الأكفاء، لا التي يستولي عليها ويستخدمها الأشخاص الخبثاء. يوم تصبح هذه البديهيات التي علمتنا إياها التجربة، الزاد الفكري المشترك لكل التيارات السياسية، أيًا كانت خياراتها التكتيكية، فإن الحلقة المُفْرَغَة البائسة التي ندور فيها منذ قرن ستكسر، وسنكون فعلاً قد أصبحنا نمشي على طريق مستقيم سيؤدي بنا إلى حيث نحلم بالوصول.
ولا بُدَّ للليل أن ينجلي.
__________
د.منصف المرزوقي: الرئيس التونسي الأسبق.
رابط المقال الأصل:
هذا المقال يُعَبِّرُ عن رأي كاتبه ولا يُعَبِّرُ بالضرورة عن رأي الموقع.
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_سياسية_منصف_المرزوقي_سورية_زهرة_الربيع_العربي_ودروس_المرحلة