مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تحليل_سياسي_محمد_فاروق_الإمام_طوفان_الأقصى_وصحوة_الغرب
لقد كانت الشعوب الغربية قبل طوفان الأقصى غافلة عن الحقيقة، مُصَدِّقَةً ما تُرَوِّجُ له الصهيونية من أكاذيب وأباطيل، مُتَصَوِّرةً أنها تعيش في كذبة عصر التحضر والليبرالية والمناداة بالعدالة والمساواة، بَيْدَ أن الطوفان أيقظ فيهم الغفلة، فاصطدم بغربٍ إمبريالي يدعم الصهيونية بلا حدود، يزودها بكل الأسلحة الفتاكة التي تساعدها على ممارسة إجرامها قَتْلاً وتشريداً وترويعاً وتجويعاً وبشكلٍ لا سابق له في التاريخ الحديث وقديمه.
إنه لشيء مُقْرِفٌ وشيءٌ مُؤسِفٌ أن تحيا إلى زمنٍ ترى فيه العالم يعيش من غير ضمير، ويسعى من غير أخلاق، ويتواصى بغير الحق وبغير الصبر. وإنه لشيءٍ مُؤسِفٌ ومُقْرِفٌ أن ترى الكثير من الحكومات والمؤسسات وقد فقدت أي مَلمح للحرية، ودخلت في القطيع الذي يرعاه الكيان الصهيوني الهجين الغاصب، الذي لن يستطيع أن يحيا ساعةً واحدةً على غير دماء الأبرياء، وعلى غير جراحات المستضعفين الباحثين عن نصيبهم من الحياة الحرة الكريمة في عالمٍ قد صار إنساناً مُهَجَّناً، تجد فيه كل شيء إلا الحرية والكرامة.
لقد اعتادت الصهيونية على مدى العقود الماضية أن تجد تعاطفاً واهتماماً من الرأي العام الغربي، لكنها اليوم خسرت هذا كله، فانقلب السحر على الساحر، وبانت الحقيقة ساطعة كقرص الشمس، حقيقة الحكومات في بلدانهم الخاضعة لما تُمليه الصهيونية عليهم، وبان دَجَلُ هذه الحكومات على هذه الشعوب وعلى داعميها، الذين حَيَّرَتْهم صحوة شعوبهم المُندِّدة بالعدوان الصهيوني الوحشي على غَزَّةَ، وأرعبتهم ردود فعل الجماهير الغاضبة التي ثارت في كل مكان: في المطارات، ومحطات المترو، والساحات العامة، فأخذوا يحسبون لها حساباً في حركاتهم وسَكناتهم وسياساتهم؛ وإلا فإن تناقضهم سينكشف ما بين دعمهم لحقوق الإنسان و(الحيوان) وبين دعمهم الفعلي للإرهاب والإجرام. ولذلك سارع كثير من ساسة الغرب إلى تغيير مواقفهم من العدوان الصهيوني، وبعضهم غيَّر خططه التكتيكية استجابةً لصحوة الوعي العالمي التي انطلقت بسبب العدوان البربري على غَزَّةَ.
إن هدير الحشود المليونية في مختلف مدن العالم بكل أعراقه ولغاته وألوانه، والداعية في كل يوم إلى وقف الإبادة الجماعية؛ تُقلق صُنَّاع الحروب وتجار الدماء؛ وتكشف حقيقة الدعم غير المحدود للقمع والجريمة والأباطيل التي ما عادت تنطلي على الشعوب، وهي تتابع مجريات العدوان الهمجي وتشاهد الصور الكارثية بحق المواطنين الفلسطينيين في غَزَّةَ والضفة الغربية الخاوية بطونهم والعُزَّل من كل ما يدفعون به عدوان الصهاينة الغاشم.
لقد أضحت القضية الفلسطينية اليوم ليست قضية لجوءٍ ونزوحٍ، بل باتت قضية ناجين من النكبة التي حلَّت بهم عام 1948م. وهُم الأحق بأن يكون هذا وصفهم في مواجهة دعوات يهود الزائفة بأنهم الناجون من المحرقة. ولا هي مسألة وطن ووجود فقط، بل هي أيضاً قضية الشرفاء في كل أنحاء العالم، هي قضية الحق ضد الباطل، والصدق ضد الزيف، قضية رأي عام عالمي.
إنها صحوة الرأي العام العالمي الذي كان مُخدَّراً لأكثر من مئة عام، عانى خلالها شعبنا العربي في فلسطين من ويلات الاحتلال الصهيوني وقوانينه اللاإنسانية، التي سَنَّها وتعسَّف أشد التعسف في مزاولتها منذ عام 1948م. وبها استلب بالقسر والعنف الأراضي العربية، ممارساً أساليب همجية في طرد العرب من قراهم ومدنهم.
ففي عامٍ واحد، هو عام 1948م، دَمَّر الصهاينة أكثر من 250 قرية عربية. ولم يكن آنذاك رأي عام عالمي يلتفت إلى أحابيل الصهيونية وشيطنتها ودَجَلِهَا في زرع الفتن والنزاعات السياسية والطائفية، كما لم يكن يدري أن احتلال فلسطين هو الهدف المركزي الذي من أجله قامت الحركة الصهيونية، وليس كما يزعمون عودة إلى أرض موعودة. والرأي العام العالمي ما كان يرى كيف أنه خلال عشر سنوات (1948م – 1958م) تَمَّ الاستيلاء على أكثر من مليون دونم من أراضي العرب بقوانين عسكرية لا إنسانية، مثل قانون ساعة الطوارئ (1949م)، وقانون أملاك الغائبين (1950م)، وقانون الاستيلاء على الأراضي ساعة الطوارئ.
ما كان الرأي العام العالمي يدري أن عملية استلاب الأراضي أَضرَّت بزراعتها وتركت جيلاً من العرب عاطلين عن العمل لتُقام بدلها كيبوتسات ومستعمرات خراسانية مُحصَّنة بالجدران الكونكريتية.
وما كان الرأي العام يعلم بقضية الناجين من النكبة التي تفاقمت بعد تشريع قانون تقادم الزمن، الذي أُرِيد به قَطْعِ أي أمل بعودة الناجين من النكبة إلى فلسطين؛ موطنهم ومولدهم ومنشأهم وفضاء ذاكرتهم الفردية والجماعية.
اليوم أدار العالم كله أنظاره صوب فلسطين، صوب المعاناة والمأساة. صار الرأي العام العالمي يعرف ما يجري في فلسطين، ولذلك ما أنفك هدير المظاهرات المحتجة والشاجبة للوحشية الصهيونية يعلو يومياً في عواصم العالم ومدنه الكبيرة والصغيرة، مُحَطِّماً جدار الهولوكوست الذي ظلت تُقيمه الدوائر الصهيونية أمامها، وناصر صوت الحق، صوت الشعب المظلوم، صوت فلسطين المسلوبة، صوت الناجين من النكبة.
لا صوت يعلو اليوم في كل أرجاء الأمريكيتين وآسيا وإفريقيا وأوروبا سوى صوت الحق الهادر والمنادي بإنصاف شعبنا الفلسطيني، وإعادة الحق إليه في تقرير مصيره وإقامة دولته الحرة المستقلة. وقد حطَّم الرأي العام العالمي بصحوته جداراً طالما عزله عن القضية العادلة، وحال دون أن يسمع معاناة الناجين من نكبتها.
إنها صحوة وعي عالمية أو هي انتفاضة الضمير الإنساني من تحت ركام الواقع المُخيِّب للآمال، والمُهيِّج للآلام بعد تلك الصدمة الكبيرة بالانحياز العرقي التي كشفت عنها حرب روسيا وأوكرانيا. فأدهشنا احتضان الأوروبيين للاجئين الأوكرانيين، وفهمنا أنهم يتعاطفون مع عِرْقهم الأبيض وسُحنات وجوههم وقسماتهم وشعرهم الأشقر وعيونهم الزرق والخضر. الآن تستقيم المعادلة ويعتدل الميزان.
لقد غُصِب الشعب المظلوم منذ ثلاثة أرباع القرن قَتْلاً وتشريداً وتصفيداً وتجويعاً، لكن غضبه لم يصل العالم المغشوش بمكائد الصهيونية وفكرها ودسائسها الخبيثة، التي لا قِبَل لنا كأمة لا تملك إرادتها بمواجهتها، فكانت فلسطين مُغيَّبة.
يقول إدوارد سعيد: ’’إن فلسطين بالنسبة لأي شخص يعيش في الغرب ليست قضية. ومع ذلك فإن الاعتراف بذلك مغامرة في مجال غير مألوف نسبياً بالنسبة لعدد كبير جداً من الذين يقرؤون الصحافة الغربية ويشاهدون التلفاز ويستمعون إلى الراديو. وأغلبية كبيرة من الأدبيات المتعلقة بالشرق الأوسط، على الأقل حتى عام 1968م، تعطي انطباعاً بأن جوهر ما يجري في الشرق الأوسط هو سلسلة من الحروب التي لا تنتهي بين مجموعة من الدول العربية وإسرائيل‘‘.
بهذا الشكل كان التعتيم كبيرا على القضية الفلسطينية، لكن طوفان الأقصى كان هادراً، فكانت الصحوة عالمية، لا على الصعيد الشعبي والجماهيري أو صعيد الفكر المستنير الحر الذي يمثله مفكرون وأدباء وفنانون وعلماء، بل أيضًا على الصعد الرسمية للحكومات. فقد قطعت كل من بوليفيا وجنوب إفريقيا وتشيلي علاقاتها مع الكيان الصهيوني، واعترفت بعض الدول بدولة فلسطين. وما من حكومة تبادر إلى إعلان مقاطعتها حتى تعلن دولة أخرى عن نيتها في المقاطعة أو الاعتراف بدولة فلسطين.
وحتى كولومبيا هددت الكيان الصهيوني بقطع العلاقات معها إن هي واصلت عدوانها الغاشم على شعب غَزَّةَ.
حقًا كان الثمن باهظًا والتضحيات جسيمة، عشرات الآلاف من الشهداء، وضعفهم من المصابين، وأضعاف أضعافهم من المُشرَّدين. فهل كان لِزاماً على الشعب الفلسطيني تقديم كل هذه التضحيات حتى يصحو الضمير العالمي ويدرك حقيقة قضيته؟
ويتغطرس الصهاينة بالتقليل من هذه المواقف العالمية ويصورونها زوراً وبهتاناً بأنها كيت وكيت… إلى آخره من الأوصاف الفارغة، وهم بذلك يحولون أنفسهم إلى هُزأة أمام العالم.
فمثلًا، عَلَّقَ مسؤولون صهاينة بأن موقف كولومبيا وصمة عار عليها. أية وصمة عار أكبر من وصمة العار بقتل الأطفال والشيوخ والنساء العُزَّل؟! أية وصمة عار أكبر من الشروع في الإبادة الجماعية بأفتك الأسلحة أو بقطع الغذاء والدواء؟! هذه الفظائع هي التي دعت العالم المتحضر إلى الصحوة، والخروج من حالة التخدير التي حقنته بها الدوائر الصهيونية، لتكون فلسطين هي القضية التي فيها العلاج الشافي والدواء الكافي ليبرأ الرأي العام من المرض الفتاك الذي أصابه من جراء التضليل الصهيوني والمتمثل بـ’’معاداة السامية والهولوكوست‘‘. وهل يسوغ هذا وحده اضطهاد شعب آخر وقتله وإبادته والقضاء على عِرْقِه؛ كما حصل للهنود الحُمر على يد الغزاة المستوطنين لأمريكا؟
المراجع
القدس العربي – 6/4/2024م.
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تحليل_سياسي_محمد_فاروق_الإمام_طوفان_الأقصى_وصحوة_الغرب