
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تقدير_موقف_أحمد_حسين_بكر_مستقبل_العلاقات_السورية_الإيرانية_بعد_سقوط_نظام_الأسد
لا يزال الغموض والترقّب يسيطران على مستقبل العلاقات السورية – الإيرانية بعد سقوط نظام بشار الأسد، الذي أسفر عن خروج إيران من الساحة السورية ومجيء نظام جديد تتعارض مصالحه مع المصالح الإيرانية.
تسعى هذه الورقة إلى تقديم تقدير موقف لمستقبل العلاقات السورية-الإيرانية، من خلال تحليل المواقف الرسمية لنظامي طهران ودمشق، ورصد الخسائر الإيرانية الناجمة عن الخروج من الساحة السورية، إضافة إلى استعراض الدعوات داخل إيران لإعادة النظر في العلاقة مع سورية واستراتيجيات السياسة الخارجية الإيرانية بشكل عام.
ثم تنتقل الورقة إلى تحليل العوامل المحددة لشكل العلاقة بين الطرفين: فعلى الجانب السوري، يشمل ذلك طبيعة الدولة الجديدة، مواقف القوى الفاعلة، والمصالح السورية. أما على الجانب الإيراني، فتتمثل العوامل في البراغماتية الإيرانية، المصالح الاستراتيجية لطهران، والفرص المتاحة لها.
وتختتم الورقة بتقديم السيناريوهات المحتملة لشكل العلاقات المستقبلية بين سورية وإيران، مع ترجيح السيناريو الأقرب للتحقق.
العلاقات السورية – الإيرانية بعد سقوط نظام بشار الأسد
أولا- سقوط الأسد والخسائر الإيرانية:
أدى سقوط نظام بشار الأسد إلى خسارة قوى إقليمية ودولية لمصالحها ومساحات نفوذها في سورية وخروجها من الساحة السورية. وكانت إيران على رأس قائمة الخاسرين، إذ فقدت سورية، التي كانت الحلقة الرئيسية في ’’الهلال الشيعي‘‘، والممر الحيوي لنقل الأسلحة والإمدادات إلى حزب الله اللبناني، الذي يُعد خط دفاع متقدماً لمحاصرة إسرائيل وإبعاد التهديد عن الحدود الإيرانية.
1- تعارض الموقفين الإيراني والسوري:
اتسم الموقف الإيراني من سقوط نظام بشار الأسد بالارتباك أول الأمر، بسبب الصدمة التي أحدثها السقوط السريع، والاضطرار إلى إخراج القوات المتواجدة على الأراضي السورية من الإيرانيّين والميليشيات الموالية لإيران.
الموقف الرسمي الإيراني قُبيل السقوط عبَّرت عنه قيادات الدولة والخارجية الإيرانية، وهو الدعم الكامل والقاطع للأسد وحكومته وللشعب السوري، ووَصْف الفصائل المسلحة السورية بأنها جماعات ’’سلفية تكفيرية‘‘ و’’إرهابية‘‘، تسعى لتحقيق أهداف قوى إقليمية ودولية، هي تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن هذا الموقف تغيَّر بعد سقوط الأسد، ووَصَف الإعلام الإيراني الرسمي الفصائل السورية المسلحة بـ ”المعارضة‘‘، وهو ما اعتُبِرَ اعترافاً من النظام الإيراني بالأمر الواقع، وتمهيداً لموقفه من المرحلة الجديدة في سورية بعد الأسد.
بعد سقوط الأسد، وضعت إيران مجموعة من المُحدِّدات لموقفها من النظام السوري الجديد، واعتبرتها مُهِمَّة في تحديد مستقبل سورية، والحفاظ على استقرارها، واستقرار الدول المحيطة، وهي ضرورة المحافظة على سيادة سورية وسلامة أراضيها، وحق الشعب السوري في تقرير مستقبله دون تدخل أجنبي، وضرورة ألَّا تتحول سورية إلى ملاذ آمن للإرهاب، وتشكيل حكومة شاملة بمشاركة كل أطياف الشعب السوري.
ثم صدرت إشارات عن الجانب الإيراني تُبرر التدخل في سورية، وتشير إلى إمكانية التواصل بين إيران والنظام السوري الجديد. ويمكن رصد أهم الإشارات فيما يلي:
1-تدخُّل إيران في الشأن السوري كان بطلب رسمي من حكومةٍ قائمةٍ لمحاربة الإرهاب.
2-إيران كانت تسعى من خلال مساعدتها للأسد إلى إنقاذ سورية من التحول إلى دولة فاشلة.
3-إيران كانت تتواصل مع المعارضة السورية بشكل غير مباشر، من خلال مسار أستانا.
4-القرار بشأن العلاقات المستقبلية مرهون بسلوك القوى الحاكمة في سورية.
وأكَّدت إيران أنها لن تَدّخر جهداً للمساعدة في إرساء الأمن والاستقرار في سورية، كدولة مهمة ومؤثرة في منطقة غرب آسيا، ولهذا الغرض، سوف تواصل مشاوراتها مع كل الأطراف المؤثرة في الشأن السوري من دول المنطقة.
ولكن هذه اللغة الدبلوماسية رافقتها لغة التهديد في البداية، حينما دعا المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، الشبابَ السوري إلى ’’الوقوف بكل قوة وإصرار لمواجهة مَن صَمَّمَ هذا الانفلات الأمني ومَن نَفَّذه‘‘، وتوقَّع ظهور مجموعة من الشرفاء الأقوياء لهذا الغرض. وهو ما اعتبرته سورية تهديداً ببث الفوضى في سورية، وحذَّرت إيران من تداعيات مثل هذه التصريحات.
وعلى الجانب الآخر، عبَّر النظام السوري الجديد عن موقفه من إيران والعلاقة معها من خلال كبار قياداته، وعلى رأسهم أحمد الشرع، الرئيس الحالي للمرحلة الانتقالية، الذي انتقد الدور الإيراني في سورية خلال السنوات الماضية، وطالب إيران بإعادة النظر في سياساتها بالمنطقة بعد سقوط مشروعها في سورية، واتهمها بالتسبب في النعرات الطائفية.
وجاءت زيارة الشرع الأولى إلى الدولتين المنافستين لإيران على النفوذ في الإقليم، وهما السعودية وتركيا على الترتيب، لتؤكد توجهات سياسته الخارجية في هذه المرحلة، وهي أنه لا مكان للإيرانيّين في سورية في ظِل الإدارة السورية الجديدة، وأن هذه الإدارة ماضية في نسج شبكة علاقات إقليمية ودولية سوف تؤثر على نفوذ الإيرانيّين في سورية، وربما تقضي عليه تماماً.
2- خسائر الخروج الإيراني من سورية:
تُعَدُّ إيران الخاسر الأول بعد سقوط نظام بشار الأسد في سورية، وأعظم خسائرها هي الخروج من الساحة السورية وقطع العلاقات مع النظام السوري الجديد، وتصدُّع استراتيجية الردع الإيرانية في محورها السوري اللبناني، بخروج العناصر العسكرية الإيرانية أو الموالية لطهران من سورية وانقطاع خط الإمداد إلى حزب الله.
مع تصدع استراتيجية الردع في هذا المحور، سيواجه البرنامج النووي الإيراني خطراً متزايداً، بعد تحييد قدرة حزب الله، وزيادة احتمالات إقدام إسرائيل على مهاجمة إيران بعد عودة دونالد ترامب للسلطة في أمريكا ووجود إدارة أمريكية هي الأكثر عداءً لإيران.
هذا الخروج ستنعكس آثاره السلبية على المشروع الإيراني بالمنطقة، وعلى نفوذ إيران الإقليمي الذي سيتقلَّص لمصلحة المشروع التركي الذي تتوسع رقعة نفوذه على حساب إيران، ابتداءً من آسيا الوسطى وأذربيجان، ومروراً بالعراق، وانتهاءً بسورية.
ولكن هناك خسائر أخرى تكبّدتها إيران جرّاء خروجها من الساحة السورية، أبرزها الخسائر الاقتصادية، والتي تنقسم إلى نوعين: خسائر تكتيكية، تتمثَّل في الأموال التي أنفقتها طهران على مظاهر تواجدها في سورية، والديون المستحقة على نظام الأسد، إضافة إلى الاستثمارات التي توقفت. وخسائر استراتيجية، تتمثّل في توقف مشاريع ضخمة، كان يُنتظر أن تُحقق مكاسب سياسية للنظام الحاكم في طهران، مثل خط الأنابيب الذي كان مِن المقرر أن ينقل الغاز إلى أوروبا عَبْرَ سورية، ويمكن أن يعزّز موقف إيران في مواجهة الدول الأوروبية التي تسعى إلى إيجاد مصادر بديلة للطاقة عن روسيا.
ومشروع الربط البَرِّيّ الذي ينطلق من إيران مروراً بالعراق ويَصِل إلى سورية لنقل التجارة الإيرانية إلى أوروبا ودول البحر المتوسط، وهو مشروع مُهم في مواجهة العقوبات الغربية، خاصَّة بعد عودة ترامب الذي ينتهج سياسة ’’الضغوط القصوى‘‘ ضد إيران.
هذا بالإضافة إلى الخسائر المعنوية التي تكبّدتها إيران، والمتمثلة في تشويه صورتها كقوة إقليمية فاعلة، وفقدان ثقة الطوائف الشيعية والميليشيات المسلحة الموالية لها في المنطقة، بعد أن فشلت في حماية حليفها في سورية، ولم تستطع البقاء لحماية العتبات المقدسة أو أضرحة أهل البيت التي وعدت بحمايتها.
لن تقتصر التداعيات السلبية المترتبة على خروج إيران من سورية على مكانتها الخارجية، بل ستمتد لتؤثر على الحالة الداخلية أيضاً. فالخسائر الإيرانية تزيد من حالة السخط لدى الشعب الإيراني الذي يُعاني من أزمة اقتصادية تتفاقم بسبب العقوبات الخارجية، في وقتٍ خسرت فيه الدولة عشرات المليارات من الدولارات في سورية
يزيد من خطورة السخط الشعبي بالنسبة للنظام الإيراني ما تروجه المعارضة حول إمكانية تكرار التجربة السورية داخل إيران، لتشابه الوضع بينهما، من حيث انسداد الأفق السياسي وسوء الأحوال المعيشية، ووجود تقديرات بأن الشعب الإيراني سوف يتحرك لإسقاط النظام في حال توجيه ضربة أمريكية أو إسرائيلية قوية لإيران وتَعرُّض مراكز القيادة والسيطرة فيها للتدمير.
سوف تدفع التحديات المترتبة على خسائر الخروج من سورية النظامَ الإيراني إلى البحث عن طرق يمكن من خلالها وقف هذه الخسائر الكبيرة والمركبة، وأهم هذه الطرق هو إقامة علاقات مع النظام السوري الجديد.
3- إعادة النظر في العلاقة مع سورية:
أدَّى سقوط نظام بشار الأسد وخسارة إيران الكبيرة، على جميع المستويات، اقتصادية وسياسية وعسكرية ومذهبية، إلى ظهور أصوات من أنصار النظام والسياسيّين وخبراء العلاقات الدولية تنادي بإعادة النظر في توجهات طهران نحو سورية، وشكل العلاقات الإيرانية السورية المستقبلية، وطرحوا آراءً كثيرة، منها ما يلي:
-التسليم بالأمر الواقع، والاعتراف بأن الوضع الحالي ليس في صالح إيران، والعمل على تجنُّب القطيعة الكاملة مع النظام السوري الجديد، للحفاظ على شكل من أشكال التواجد وعدم الخروج من الساحة السورية بالكليَّة.
-إعادة النظر في استراتيجية الردع الإيرانية، التي تحتاج إلى إنفاق مالي كبير وتواجد خارجي مُكلف، بعد انهيارها في سورية، ومن قبلها لبنان، وضرورة الإسراع بامتلاك السلاح النووي وتطوير منظومة الصواريخ الباليستية والمُسيَّرات الحربية، بديلاً عن الاعتماد على الميليشيات الخارجية المسلحة والجبهات المتقدمة، التي تُعَد سبباً في توتر علاقات إيران الخارجية مع محيطها الإقليمي، ومِن ثمَّ مع القوى الدولية.
-إبداء مزيدٍ من البراغماتية في التعامل مع النظام الجديد في سورية، وضرورة تبني نهج متوازن من جانب إيران في التعامل مع الفصائل السورية المسلحة التي سيطرت على الدولة، لتجنب زيادة التوتر، وللبقاء ضمن عملية إعادة تشكيل ديناميات الصراع.
-التحذير من استمرار الهجوم على النظام السوري الجديد واتهامه بالعمالة لإسرائيل؛ لأن ذلك قد يدفعه إلى التقارب مع الكيان الصهيوني فعلاً والبُعد التام عن إيران. واستبعاد فكرة العمالة لإسرائيل من الخلاف الإيراني السوري؛ لأن أي حكومة في دمشق سوف تكون معادية لإسرائيل التي تحتل جزءًا من الأراضي السورية.
-طي صفحة سورية ولبنان، ولو مؤقتاً، والاعتماد على جبهتي العراق واليمن، بعد أن أثبتت الميليشيات المسلحة الموالية لإيران قدرتها على استهداف إسرائيل والوصول إليها.
-التواصل مع الجماعات السورية المختلفة عن طريق الدبلوماسية السرية وتحذيرها من أن تقسيم سورية ليس لمصلحة إيران ولا سورية، وإنما لمصلحة أعداء البلدين، وأن طهران تقف بكل قوتها مع الحفاظ على وحدة سورية ومستعدة للتعاون في هذا المجال.
-الانتقال من مربع الهجوم إلى مربع الدفاع، بالتركيز على العلاقة مع العراق الذي يمكن أن تنتقل إليه عدوى الثورة السورية، ومساعدة الفصائل الشيعية التي تتعرَّض لضغوط من أجل تسليم أسلحتها والانخراط في الجيش العراقي، حتى يظل العراق جزءًا من محور المقاومة ويقوم بتعويض الدور السوري.
-حماية مصالح إيران المشروعة في سورية بشكل قانوني إلى جانب الدبلوماسية النشطة والمبتكرة، وتأجيل البحث عن بعض المصالح في مقابل حماية مصالح حيوية أخرى، وهو ما يحد من المشاكل، ويؤسس لتواجد إيراني في سورية بعد الأسد.
-الاستفادة من عنصر الطاقة في المحافظة على التواجد الإيراني في سورية؛ لأن استبدال مصدر طاقة جديد بالطاقة الإيرانية سوف يستغرق وقتاً طويلاً، وهو ما قد يتيح فرصة للدبلوماسية التجارية بين البلدين.
-التوافق مع الولايات المتحدة من أجل تكرار التجربة العراقية في سورية، والتي انتهت بتعميق الدور الإيراني في العراق، بعد أن تحوَّل إلى نقطة تبادل للضغوط والمصالح بين الطرفين.
-تحريض الشعب السوري على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، والتواصل مع القوى السورية المعادية لإسرائيل، وتقديم المساعدات لسورية في مواجتها لإسرائيل في مقابل فتح المجال السوري لإيصال السلاح إلى حزب الله اللبناني.
هذه الرؤى وإن كانت متناقضة في بعض تفاصيلها، إلَّا أنها تتفق جميعها في حاجة إيران إلى تغيير استراتيجيات العلاقات الخارجية، كليًّاً أو جزئيًّاً، والإقرار بأهمية العلاقات الإيرانية السورية، وضرورة الاعتراف بالأمر الواقع والتعامل معه، والبحث عن وسيلة لإقامة علاقات مع النظام السوري الجديد.
ثانيا- النظام السوري الجديد والعلاقة مع إيران:
يرتبط موقف النظام السوري الجديد من العلاقات المستقبلية مع إيران بجملةٍ من العوامل المؤثرة، التي سوف تشكِّل توجهات السياسة الخارجية للدولة الجديدة، ولا مجال فيها للنوايا الحسنة أو التصريحات الدبلوماسية المطمئنة، كما أنها لا ترتبط بالقرار السوري المنفرد، وتدخل فيها حسابات المصالح المشتركة مع القوى الإقليمية والدولية. وهذه العوامل على النحو التالي:
1- شكل الدولة الجديد:
على الرغم من الإجراءات التي اتخذت من أجل إدارة المرحلة الانتقالية في سورية، والتي توحي باختيار النظام الجديد مسار الديمقراطية، إلَّا أنه من المُبكّر الجزم بالشكل النهائي للدولة الجديدة في سورية، وطبيعة نظامها السياسي، وتوجهات حكامها في علاقاتهم الخارجية. وهذا الشكل لن يخرج عن الأشكال التالية:
–دولة ديمقراطية، تستوعب جميع الطوائف والأعراق والتيَّارات، وتُرسَم فيها السياسات الخارجية على أساس الإرادة الشعبية والمصالح الوطنية، فيما يشبه تجربة أي دولة تمارس الديمقراطية بقواعدها الصحيحة.
–دولة إسلامية، تسيطر عليها التيَّارات السلفية الجهادية، وتقصي باقي التيَّارات أو تهمّش دورها، ولا تحظى باعتراف المجتمع الدولي، رغم تعاونها مع قوى إقليمية ودولية من أجل الحفاظ على المصالح المشتركة، وتُرسَم فيها السياسة الخارجية على أساس توجهات ومصالح القوة المهيمنة على السلطة، فيما يشبه تجربة طالبان بعد سيطرتها على أفغانستان.
–دولة تابعة للغير، يقوم عليها نظام يوالي الغرب، ويدور في فلكه، وتتماهى مواقفها وسياساتها الخارجية مع مواقف الدول الغربية وسياساتها الخارجية، فيما يشبه تجارب الدول العربية المعروفة بمحور الاعتدال، مثل دول الخليج ومصر والأردن والمغرب.
–دولة المحاصصة الطائفية، التي تتقاسم فيها الطوائف والأعراق السلطة، وتستقوي بعلاقاتها الخارجية، لتتحول إلى ساحة للصراع على النفوذ، وتتنازع فيها هذه الطوائف رَسْم السياسات الخارجية، على حسب مصالحها وقدرتها على فرض توجهاتها، فيما يشبه تجربة العراق.
–دولة منقسمة، تعاني من صراع داخلي بين طرفين يتنازعان السيادة على البلاد، ويقيم كل طرف منهما حكومة في الجزء الذي يسيطر عليه، ويَرسِمُ سياساته الخارجية على أساس الاستقواء بالقوى المعادية للطرف الآخر، فيما يشبه تجربة ليبيا.
–دولة فاشلة، تعاني من الحرب الأهلية بسبب اختلاف الفصائل التي شاركت في الثورة، ما يجعل البلاد عرضة للتدخل الخارجي، فيما يشبة تجربة أفغانستان بعد انسحاب الروس منها.
لسنا هنا بصدد ترجيح شكل من هذه الأشكال على آخر، وإنما نحن بصدد البحث في موقف الدولة السورية الجديدة من إيران في حالة كل شكل منها.
فالشكل الأول يضمن لسورية دولة قوية، قادرة على إقامة علاقات إقليمية ودولية متوازنة وطبيعية، طالما ضمنت هذه العلاقات المصالح السورية وحافظت على الأمن القومي، بما في ذلك إقامة علاقات مع إيران، ولكن على المدى البعيد؛ لأن الإرداة الشعبية السورية ستظل متأثرة في المديين القريب والمتوسط بالآثار السلبية للتدخل الإيراني في الشأن السوري.
وفي حالة الدولة الإسلامية والدولة التابعة، فإن تطبيع العلاقات مع إيران سوف يواجه مشكلة لأن التيَّارات الجهادية التي سوف تقود دولة إسلامية في سورية هي التي حاربتها إيران على الأراضي السورية، ولها موقف أيديولوجي مُعادٍ للإيرانيّين. والدولة التابعة للغرب سوف تتماهى مع التوجهات الغربية التي ترى أن إيران دولة ’’مارقة‘‘، تعادي مصالح الغرب، ومِن ثمَّ لا يجب لدولة موالية للغرب أن تقيم علاقات طبيعية معها.
أما دولة المحاصصة، والدولة المنقسمة، والدولة الفاشلة، فهي أشكال تسمح لقوى سورية بالتعاون مع إيران، إذا قررت هذه القوى الاستقواء بأطراف خارجية في صراعها على السلطة والنفوذ، وهو ما يمكن أن يُقدِّم لإيران فرصة العودة إلى الساحة السورية، خاصَّة أن طهران ترتبط بعلاقات تاريخية مع الشيعة، والعلويّين الذين يتواجدون في منطقة الساحل، وأنصار النظام السابق، بالإضافة إلى إمكانية إقامة علاقات مع التنظيمات الكردية التي تسيطر على شمال شرق سورية.
2- مواقف القوى الفاعلة:
لم يكن للثورة السورية أن تنتصر على نظام الأسد بلا إعداد، ولكن الإعداد وحده لم يكن كافياً لتحقيق هذا النصر، وظلت الفصائل المسلحة تنتظر حتى حدث التوافق الإقليمي والدولي الذي صادف بيئة جاهزة ومستعدة للتغيير.
هذا التوافق أظهر أهمية الدور الذي تلعبه القوى الفاعلة في الشأن السوري، والذي لن يفقد أهميته بسقوط الأسد وقيام النظام الجديد؛ لأن تثبيت أركان النظام الجديد مرهون باستمرار هذا التوافق، وهذه الاستمرارية بدورها مرهونة بالمحافظة على مصالح هذه القوى.
ولعل المصلحة المشتركة بين القوى الفاعلة في الشأن السوري، إقليمية كانت أو دولية، هي إبعاد إيران عن الساحة السورية، والقضاء على أي نفوذ لها، ومنعها من استعادة هذا النفوذ.
فالولايات المتحدة التي أثبتت أنها اللاعب الرئيس، وأعطت الضوء الأخضر لحلفائها في تركيا وقطر لدعم تحرك الفصائل المسلحة ضد بشار الأسد، تحركت في إطار خطتها للقضاء على التواجد الإيراني في سورية وإضعاف حزب الله اللبناني، لحماية أمن إسرائيل.
ولهذا، صرحت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، باربرا ليف، بعد زيارتها دمشق، أنه ’’لن يكون لإيران أي دور على الإطلاق في سورية ولا ينبغي لها ذلك‘‘.
أما تركيا فإنها تمدد نفوذها في كل المناطق الخاضعة لسلطة الدولة السورية الجديدة، على حساب إيران، بعد أن كانت تمارس نفوذها على أجزاء من محافظة إدلب بالتحالف مع الفصائل المعارضة. وهذا جزء من الصراع على النفوذ بين أنقرة وطهران، والذي شهد تفوقاً تركيًّا بعد انتصار أذربيجان على أرمينيا، الحليفه لإيران، وطردها من إقليم ناغورني قره باغ، بمساعدة تركية. بالإضافة إلى تمدد النفوذ التركي في دول وسط آسيا الوسطى من خلال التعاون العسكري والأمني والاقتصادي، تحت مظلة ’’منظمة الدول التركية‘‘.
هذا الأمر ينطبق على السعودية التي تهتم بتحجيم قوة إيران في المنطقة وإبقائها تحت ضغط مستمر وتهديد دائم من جانب إسرائيل والغرب، لتظل مشغولة بنفسها عن مساعدة وكلائها في المنطقة، وعلى رأسهم الحوثيون، الذين عجزت المملكة عن الانتصار عليهم، وصاروا يهددون أمنها بعد تمكنهم من قصف العمق السعودي وتهديد المصالح الحيوية.
هذا التوافق على خروج إيران من الساحة السورية ومنعها من العودة إليها لا يمكن للنظام السوري الجديد تجاهله، على الأقل في المديين القريب والمتوسط. وبناءً عليه فإنه لن يستطيع الإقدام على إقامة علاقات طبيعية مع إيران أو إعطائها الفرصة للعودة إلى ممارسة نفوذها في المشهد السوري مرة أخرى.
3- المصلحة السورية:
ترتبط السياسة الخارجية للنظام السوري الجديد بجملة من الأهداف التي يسعى لتحقيقها، وكثير من المصالح التي يريد الحفاظ عليها عبر علاقاته الإقليمية والدولية.
والمصلحة السورية الآن مرتبطة بتحقيق الأهداف التالية:
-الحصول على القبول المحلي والتأييد الشعبي، من خلال الاستجابة للإرادة الشعبية. والغالب على الشعب السوري الآن هو رفض عودة إيران إلى الساحة السورية بعد دعمها للنظام السابق ضد مواطنيه، مما أدَّى إلى تأخير انتصار الثورة.
-اكتساب الشرعية الدولية والاندماج في المجتمع الدولي، من خلال إقامة علاقات جيدة مع القوى الدولية، وعدم تعريض مصالح هذه القوى في سورية للخطر. والغالب على المجتمع الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة هو عزل إيران ومحاصرتها.
-عدم استثارة إسرائيل التي غضَّت الطرف عن وصول إسلاميّين للحكم في سورية في مقابل خروج إيران من الساحة السورية.
-تثبيت أركان النظام واستكمال مؤسسات الدولة، وهو ما لا يمكن تنفيذه إلَّا بتحييد الثورة المضادة، وهذا التحييد يمكن في ظِل علاقات جيدة مع دولة قوية مثل تركيا، ودولة عربية كبرى مثل السعودية، هي في الأساس من دول محور الثورة المضادة، والعلاقة الجيدة معها تقتضي الابتعاد عن إيران.
-إعادة الإعمار، وتقديم نموذج ناجح للدولة، يلبي احتياجات المواطنين، ويُجنِّب البلاد مصير التجارب التي تحولت فيها الدول إلى دول فاشلة. وهذا يحتاج إلى رفع العقوبات الدولية من جانب الولايات المتحدة والدول الغربية، والحصول على مساعدات وضخ استثمارات وتوظيف إمكانيات لا تملكها إلَّا دول ثرية أو تمتلك قدرات هائلة مثل السعودية وتركيا وقطر.
-فرض الاستقرار، وهو مرهون باستمرار التوافق الدولي والإقليمي الذي كان عنصراً رئيساً في تقدم الفصائل المسلحة وإسقاط النظام السابق وانتصار الثورة السورية.
لهذا فإن تحقيق أهداف النظام السوري الجديد والمحافظة على مصالحه لا يتوافقان مع تطبيع العلاقات مع إيران، في المديين القريب والمتوسط على أقل تقدير.
ولكن التوجُّه السوري بالابتعاد عن إيران قد تخف حدته بشكل جزئي أو كلي في المستقبل، بعد أن تتجاوز الدولة الجديدة المرحلة الانتقالية وتثبت أركانها، وفي حدود التوافقات التي ترعاها القوى الفاعلة، أو إذا وَجَد النظام السوري الجديد في ذلك مصلحة له. ومن هذه المصالح ما يلي:
-تأمين الجبهتين العراقية واللبنانية، وهذا لن يتم إلَّا بالتفاهم مع الإيرانيّين، الذين يستطيعون استغلال الميليشيات العراقية وحزب الله في زعزعة أمن سورية.
-تجنب حدوث تقارب بين إيران والأكراد أو أي كيان معارض آخر في حالة إغلاق الباب بشكل كامل في وجه أي مساعي إيرانية لإقامة علاقة مع الدولة السورية الجديدة.
-ربما يحتاج السوريون في المستقبل لإقامة علاقات مع دولة مثل إيران لإحداث توازن في علاقاتهم الخارجية مع تركيا والسعودية وأمريكا، خاصَّة إذا تحولت هذه العلاقات إلى نوع من الوصاية على سورية أو استغلت في تقييد حركة الدولة الجديدة.
ثالثا- إيران والعلاقة مع النظام السوري الجديد:
ثمَّة عوامل كثيرة تتحكم في صياغة الموقف الإيراني من النظام السوري الجديد، وتحكم العلاقة المستقبلية معه، منها ما يرتبط بطبيعة السياسة الخارجية الإيرانية، ومنها ما يرتبط بمصالح الإيرانيّين، ومنها ما يرتبط بالفرص المتاحة لإيران من أجل العودة إلى الساحة السورية.
1- البراغماتية الإيرانية:
البراغماتية جزء أصيل من استراتيجيات السياسة الخارجية الإيرانية، في سعيها لتحقيق المصالح الوطنية وحماية الأمن القومي، رغم محاولات تغليف هذه الاستراتيجيات بغلاف من المبادئ والأخلاقيات في علاقات الجمهورية الإسلامية مع الدول والهيئات والكيانات الخارجية.
ظهرت هذه البراغماتية منذ قيام الجمهورية في إيران وحتى الآن، حيث لم يتخذ النظام الإيراني موقفا أيديولوجيًّاً معاديًّاً من الاتحاد السوفياتي السابق، أو الصين، أو الهند، ووثَّق علاقاته بهذه الدول من أجل مواجهة الضغوط الغربية، وكَسْر حلقة الحصار المفروض عليه بسبب العقوبات والعزلة الإقليمية والدولية، رغم ما تعانيه الأقليات المسلمة في تلك البلاد من ظلم واضطهاد، وهو ما يتعارض مع الحديث عن الوحدة الإسلامية ونصرة المظلومين والمستضعفين.
ومن لوازم هذه البراغماتية، السعي بكل الطرق الممكنة من أجل الإبقاء على العلاقات مع الدول والكيانات الخارجية التي يمكن الاستفادة منها، مهما كانت طبيعة الخلاف معها ودرجته، وهو ما يظهر في السلوكيات التالية:
-التخلي عن الحلفاء، أو الأصدقاء، أو الذين سَبَق الإعلان عن دعمهم، والاعتراف بمَن يخلفهم من أعدائهم أو خصومهم، وهو ما رأيناه في التحول من إعلان الدعم للرئيس محمد مرسي في مصر إلى الاعتراف بِحُكْمِ السيسي والسعي لتطبيع العلاقات مع نظامه.
-التحوُّل من مربع العداء المطلق للآخر إلى مربع التوافق، أو السعي للتوافق، وتقديم سردية مغايرة، تتناسب مع هذا التحوُّل وتبرره، بلا أدنى حرج. وهو ما حدث مع الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، الذي اعتبرته إيران عدوًاً في بداية الثورة الإيرانية، ثم حاولت تطبيع العلاقات معه، واستمرت محاولاتها إلى أن ثار المصريون عليه، وتحول موقف إيران منه مرة أخرى، حيث أيَّدت الثورة عليه.
-تجاهل أي اعتبارات في سبيل المحافظة على المصالح، حتى لو كانت اعتبارات دينية أو مذهبية، حتى إن علاقات إيران مع أرمينيا المسيحية اليوم علاقات استراتيجية، فرضتها المصالح المشتركة، في مواجهة أذربيجان المسلمة، ذات الأغلبية الشيعية، والحليفة لكل من تركيا وإسرائيل اللذين يتنافس مشروعاهما مع المشروع الإيراني في هذه المنطقة.
-المزاوجة بين الدبلوماسية الرسمية التي تسعى للتعاون العلني، والعلاقات السرية التي تستغل الثغرات التي يمكن الدخول من خلالها إلى المساحات المغلقة في وجه الدبلوماسية الرسمية، مثل حركات المعارضة والطوائف والأقليات.
لذلك، رَجَّحت إيران مصلحتها على مصلحة حليفها بشار الأسد، وقررت التخلي عنه بعد أن قرأت المشهد وأدركت إن هناك إرادة إقليمية ودولية لإسقاطه، وأنَّ أي تحرك لمساعدته قد يعرضها لضربة قوية لا تستطيع أن ترد عليها في إطار سياسة التصعيد المتبادل. ولكن التخلي عن بشار لا يعني القبول بالخروج من الساحة السورية والاستسلام للوضع الراهن.
2- مصالح إيران وأهدافها:
لإيران مصالح كثيرة في سورية، تدفعها إلى السعي من أجل التواجد على الساحة السورية بأي شكل من الأشكال، وبما يحافظ لها على هذه المصالح.
–المصالح السياسية: إيران دولة محاصرة، وليس من مصلحتها أن تفقد علاقاتها مع دولة حليفة أو صديقة في ظِل ما تواجهه من عزلة دولية وإقليمية. كما أن الخروج من الساحة السورية يُخِل بتوازن القوى بينها وبين دول المنطقة، ومنها تركيا التي يتمدد نفوذها في سورية والعراق ومنطقة القوقاز على حساب النفوذ الإيراني، وهو ما تسعى طهران لمواجهته.
–المصالح الاقتصادية: تعاني إيران من مشاكل اقتصادية بسبب العقوبات الغربية، ولهذا سوف تسعى للحفاظ على سورية كَمَنْفَذ من منافذ التحايل على هذه العقوبات، بالإضافة إلى محاولة استعادة الديون المستحقة لها على النظام السابق، واسترداد استثماراتها في سورية أو استئناف العمل فيها، والسعي من أجل إبقاء المشاريع الاستراتيجية الضخمة على أجندة الدولة السورية الجديدة، وهي خط نقل الغاز ومشروع الربط البري.
–المصالح العسكرية: تحتاج إيران إلى شكل من أشكال التواجد في الساحة السورية من أجل ترميم محور المقاومة، والبقاء على مقربة من إسرائيل، وإعادة تقوية حزب الله اللبناني، الذي يتعرَّض الآن لحصار شديد من جانب أمريكا وإسرائيل وحلفائهما، لمنع وصول أي إمدادات إيرانية إليه، والطريق الوحيد الممكن الآن لإيصال الإمدادات هو الأراضي السورية.
–المصالح الأمنية: تسعى إيران لضمان عدم تحويل الساحة السورية إلى جبهة معادية، تُصدَّر منها الثورة إلى العراق، فيتغير نظام الحُكْمِ فيها، وتفقد طهران نفوذها عبر الطائفة الشيعية التي تسيطر على رئاسة السلطة التنفيذية بحكم نظام المحاصصة وتمتلك ميليشيات مسلحة موالية لها، أو تنطلق منها أعمال يمكن أن تؤدِّي إلى حدوث اضطرابات في هذا البلد الذي يجاور إيران ويمكن أن يؤثر على أمنه القومي.
–المصالح المذهبية: كان الحفاظ على العتبات المقدسة وحماية أتباع الطائفة الشيعية في سورية أحد مبررات التدخل العسكري الإيراني والإنفاق المالي الضخم على نظام الأسد. وهذا الدور لن تتخلى عنه إيران، بِحُكْمِ أنها الدولة الراعية للمذهب الشيعي حول العالم.
3- الفرص المتاحة لإيران:
يمكن رصد مجموعة كبيرة من الفرص التي قد تستغلها إيران في العودة للساحة السورية، وفتح مجال لعلاقات بين طهران والنظام السوري الجديد، بِغَضِّ النظر عن المدى الزمني الذي يمكن أن تقام فيه هذه العلاقات، سواء كان قريباً أو متوسطًا أو بعيداً، ومستواها، سواء كانت علاقات كاملة وعلنية أو جزئية وسرية. من هذه الفرص ما يلي:
–الفرق بين المواقف الرسمية وغير الرسمية: فعادة ما ترفع الجماعات والفصائل والأحزاب شعارات مثالية، أو راديكالية، ثم تتراجع عنها وتتحول إلى الاعتدال والبراغماتية، بعد أن تصل إلى السلطة وتواجه الحقائق والتحديات. هذا الأمر ينطبق على النظام السوري الجديد الذي يمكن أن يتراجع عن نهجه المناهض لإيران بمرور الوقت.
–الخلافات والانقسامات: ثمَّة إمكانية لعدم قيام دولة ديمقراطية تستوعب جميع السوريّين تحت قيادة ’’هيئة تحرير الشام‘‘، على الرغم من تصريحات أحمد الشرع. حينها سوف يطالب الأكراد والجماعات العِرْقِيَّة والدينية الأخرى والفصائل المسلحة المشاركة في انتصار الثورة بنصيبهم في السلطة، وهذه الخلافات يمكن أن تسمح بنفوذ القوى الخارجية، ومنها إيران.
–العلاقات التاريخية: لإيران علاقات تاريخية مع مجموعات عِرْقِيَّة ودينية في سورية، مثل الشيعة والعلويّين، وهذه العلاقات لن تنقطع بشكل كامل بمجرد تغيُّر الحكومة في دمشق، حتى وإن تراجعت هذه العلاقات في المرحلة الحالية. وإذا سنحت الفرصة في المستقبل فسوف تستغل إيران هذه العلاقات التاريخية، خاصَّة إذا تعرَّضت هذه المجموعات إلى ضغوط شديدة من جانب النظام الجديد، تدفعها إلى التعاون مع الخارج من أجل موازنة هذه الضغوط.
–فلسطين واستمرار محور المقاومة: المقاومة ليست من صنع إيران، ولا يَعتمِد استمرارها على إيران التي استفادت منها في قوتها الناعمة والصلبة. وعلى الرغم من الضربات التي تلقتها المقاومة في سورية ولبنان بعد 7 أكتوبر، إلَّا أنها سوف تبقى بسبب بقاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، الأمر الذي سوف يحافظ على محوريتها في السياسة الخارجية الإيرانية، لتظل نقطة التقاء محتمل بين إيران وكل مَن يعمل لمقاومة إسرائيل على الساحة السورية.
–تكرار التجارب التاريخية: يراهن الإيرانيون على تكرار التجارب التاريخية التي بَدَت خطيرة على إيران في أول الأمر، ثم انتهت لمصلحتها، متل التجربة العراقية، والأفغانية، واليمنية. فقد اتسع نفوذ إيران في العراق والمنطقة بعدما سقط نظام صدام حسين واحتلت أمريكا العراق، ولم تتضرر من وجود أمريكا في أفغانستان ووصول طالبان إلى السلطة، ولم ينحصر نفوذها في اليمن رغم الحرب التي قادتها السعودية هناك.
–معاداة إسرائيل: لا يمكن للنظام السوري الجديد أن يتجاهل العداء التاريخي مع إسرائيل، حتى وإن عمد في هذه المرحلة إلى التهدئة؛ لأن اعتداءات إسرائيل على سورية وتوسيع برامج الاستيطان في الجولان المحتل سوف يُحرِّك الشعب السوري وحكومته من أجل صد العدوان. هنا تأتي الفرصة لتقارب محتمل بين إيران والنظام السوري الجديد على أرضية المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.
–التنافس بين القوى الإقليمية والدولية: سوف يستمر التنافس بين القوى الإقليمية والدولية على حصة في سورية الجديدة، وهو ما سوف يظهر في عملية بناء التحالفات بين القوى الداخلية والخارجية، وسوف تتواصل القوى السورية مع داعميها بالخارج من هذه القوى، الأمر الذي سوف يسمح بمساحات للنفوذ الإيراني.
–التحرك في المسار التاريخي: تراهن إيران على أن اتجاهات السياسة الخارجية بالمنطقة عادة ما تسير في مسار تقليدي، لا يختلف عما عُرِف في الفترات التاريخية الماضية، حيث لا تحدث تغييرات جوهرية بتغيير القيادات، وتظل هذه التغييرات تكتيكية، الأمر الذي يحفظ للقوى الإقليمية والدولية تأثيرها، ومنها إيران.
كل هذه الفرص متاحة أمام إيران، ونجاح طهران في استغلال واحدة منها أو بعضها مرهون بالتطورات والمتغيرات التي يمكن أن تشهدها سورية في ظِل الدولة السورية الجديدة ونظامها السياسي وعلاقاتها الخارجية.
رابعا- السيناريوهات المحتملة لمستقبل العلاقات:
ترتبط السيناريوهات المحتملة لمستقبل العلاقات السورية الإيرانية بعوامل كثيرة، تدور كلها حول المصالح الإقليمية والدولية في سورية، والتي يغلب عليها التعارض، وتتدخل فيها مصالح وأهداف وتحالفات طرفي العلاقة، وهما سورية وإيران.
1- السيناريوهات المحتملة:
أ-سيناريو العلاقات الطبيعية: وهو إقامة علاقات ثنائية متوازنة، تراعي المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشأن الداخلي أو تهديد الأمن القومي، وتظهر آثارها في التنسيق بين الطرفين في القضايا المهمة والتعاون في شتى المجالات.
يعتمد تحقيق هذا السيناريو على تغيير إيران استراتيجياتها في السياسة الخارجية، والتخلي عن فكرة استعادة النفوذ في سورية وعودتها إلى محور المقاومة، وقبول القوى الفاعلة في الشأن السوري لهذه العلاقات، واتفاقها مع مصالح النظام الجديد.
ب_سيناريو العلاقات الحذرة: وهو إقامة حد أدنى من العلاقات، علنية كانت أو سرِّيَّة، يغلب عليها عدم الثقة، والحذر، والتردد في التعاون، والمواقف المتحفظة، بسبب التاريخ الصراعي والمصالح الاستراتيجية المتناقضة. يلتزم الطرفان في هذه العلاقات بأدنى درجات التعاون، في مسعى منهما لتجنُّب التصعيد.
يعتمد تحقيق هذا السيناريو على إقرار إيران وسورية بخطورة القطيعة الكاملة على مصالحهما، والسعي لإيجاد صيغ للتفاهم تمنع التصعيد بينهما، عبر وسطاء، رغم تمسُّك كل منهما بمصالحه الخاصَّة وتوجهاته في السياسة الخارجية.
ج-سيناريو العلاقات العدائية: وهو العلاقات التي يغلب عليها طابع التوتر الشديد، والعداء المتبادل والمستمر، والدعاية السلبية والتحريض، وسَعْي كل طرف لتحقيق مصالحه على حساب مصالح الطرف الآخر.
يعتمد تحقيق هذا السيناريو على تمسُّك إيران باستراتيجياتها في السياسة الخارجية، وتحريضها ضد الدولة السورية الجديدة، ودعمها للثورة المضادة، وتمسُّك القوى الفاعلة في الشأن السوري والنظام السوري الجديد بإبعاد إيران من الساحة السورية ومنعها من القيام بأي دور فيها.
2- السيناريو المُرجَّح:
أقرب السيناريوهات للتحقق حتى الآن، وإلى أن تظهر متغيرات جديدة، هو السيناريو (ب)، وهو سيناريو العلاقات الحذرة؛ لأن السيناريو (أ)، وهو العلاقات الطبيعية، يصعب تحقيقه، في المديين القريب والمتوسط، بسبب التعارض الشديد في المصالح بين إيران وسورية، كما أن تحقيقه في المدى البعيد يتوقف على حدوث تغييرات جوهرية لدى أحد طرفي العلاقة.
أما السيناريو (ت)، فإن طرفي العلاقة لا يمتلكان الآن إمكانيات تحقيقه؛ لأن سورية في مرحلة انتقالية، الأولوية فيها لبناء الدولة وتثبيت أركان الحُكْم، وهو ما لن يتحقق إذا دخلت في عداء مع إيران، يستنفذ طاقتها ويُعرِّض جبهتها الداخلية للخطر. كما أن إيران ليس من وارد لديها الدخول في عداء علني ومباشر مع النظام السوري الجديد؛ لعلمها أن التصعيد من جانبها سوف يقابل بتصعيد من جانب القوى الإقليمية والدولية التي لن تسمح لطهران بالقيام بأعمال عدائية تضر بمصالحها،
من قبيل دعم الأقلية الشيعية أو الأقلية العلوية أو فلول النظام السابق، للانقلاب على الثورة أو الضغط على النظام الجديد عبر إدخاله في معارك داخلية تعطله عن تحقيق أهدافه، خاصَّة أن أي اضطراب في سورية سوف يؤثر على تركيا ويهدد أمنها القومي، وكذلك سوف يؤثر على أمن إسرائيل، وهو ما لن تقبل به الولايات المتحدة.
هذا بالإضافة إلى أن إيران تمر بمرحلة صعبة بعد ضرب حزب الله وسقوط الأسد وعودة ترامب للِحُكْمِ ووجود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، وتتوقع ضربة عسكرية قوية، يمكن أن تؤثر على مستقبل النظام الحاكم، ولهذا فإنها سوف تفكر جيداً قبل أن تتورط في عمل ضد النظام السوري الجديد، تتخذه الولايات المتحدة حجَّة لتوجيه ضربة قوية إليها.
يمكن القول إن السيناريو (ب)، وهو العلاقات الحذرة، أقرب ما يكون إلى نموذج العلاقات بين إيران وحكومة طالبان، بعد سيطرة الأخيرة على أفغانستان في 2021م.
فقد وجدت إيران نفسها أمام عدو لها يتولى السلطة في دولة مجاورة، بعد توافق إقليمي ودولي، يتضمن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، وفتح الطريق لقوات طالبان التي لم يستطع الجيش الأفغاني الوقوف في وجهها، مع وجود مظاهر تؤكد وجود التزام من جانب طالبان بعدم التعرُّض للمصالح الأمريكية.
فالجانبان لا يخفيان عداوتهما، وكثيراً ما تحدث بينهما خلافات، ولكنهما قررا إيجاد حد أدنى من التعاون الحذر، الذي يجنبهما الوصول إلى صدام قد يؤدي إلى حرب شاملة بينهما.
خاتمة:
لا شك أن إيران خسرت الكثير بخروجها من الساحة السورية، ولديها من المصالح في العودة إلى هذه الساحة الكثير أيضاً، ما يجعلها تسعى بكل الطرق الممكنة إلى تحقيق هذه العودة وإيجاد موطئ قدم لها في سورية ما بعد الأسد.
ولكن في المقابل، ثمَّة مصالح أخرى متعارضة تدفع القوى الفاعلة في الشأن السوري ومعها النظام السوري الجديد إلى رفض عودة إيران إلى الساحة السورية واستعادة نفوذها، أو بعض هذا النفوذ، ومنعها من تعويض خسائرها وتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والأمنية والمذهبية.
هذا التعارض في المصالح يجعل إقامة علاقات سورية إيرانية طبيعية أمراً مستبعداً في الأمدين القريب والمتوسط، وربما في الأمد البعيد أيضاً، مالم يطرأ من المتغيرات ما يؤدي إلى فتح الطريق لتطبيع العلاقات بين الطرفين.
ولكن استبعاد العلاقات الطبيعية لا يعني حتمية الذهاب إلى العلاقات العدائية؛ لأنها تضر بمصالح الطرفين، لتبقى صيغة أخرى هي الأقرب لمستقبل العلاقات بين البلدين، وهي صيغة العلاقات الحذرة، التي تضمن الحد الأدنى من التعاون، وتحول دون التصعيد بينهما.
المراجع
1-القدس العربي، فورين أفيرز: كيف خسرت إيران سورية، 23 ديسمبر 2024م.
2-ستاره صبح، رابطه ایران و سوریه بعد از بشار اسد به چه سمتی میرود؟، 19 آذر 1403ش.
3-خبرگزاري ايرنا، چشمانداز روابط ایران و سوریه از دل فرصتها و تهدیدها، 26 دي 1403ش.
4-خبرگزاري دانشجو، روابط ایران و سوریه جدید چگونه خواهد بود؟، 25 آذر 1403ش.
5-فرارو، روابط ایران و سوریه در آینده چگونه خواهد بود؟، 24 دي 1403ش.
6- BBC فارسي، سقوط حکومت اسد و پیامدهای آن برای ایران و خاورمیانه، 21 آذر 1403ش.
7-ايران جيب، نقشه راه ایران برای سوریه بدون بشار اسد، 24 آذر 1403ش.
8-الجزيرة، سياسة إيران تجاه سورية الجديدة.. ترقب وخطوط حمراء، 14 ديسمبر 2024م.
9- BBC عربي، كيف سيكون شكل العلاقة بين سورية وإيران بعد سقوط الأسد؟، 26 ديسمبر 2024م.
10-مركز الجزيرة للدراسات، إيران وسورية ما بعد الأسد: تريث وترقب، 23 يناير 2025.
11-إندبندنت عربي، هل خسرت إيران سورية إلى الأبد؟ تلك سيناريوهات المستقبل، 17 ديسمبر 2024م.
12-خبرگزاري ايرنا، سه سناریو پیشروی ایران در سوریه پسا اسد، 30 آذر 1403ش.
_______________
رابط الأصل:
تقدير الموقف هذا يُعَبِّرُ عن رأي كاتبه ولا يُعَبِّرُ بالضرورة عن رأي الموقع.

مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تقدير_موقف_أحمد_حسين_بكر_مستقبل_العلاقات_السورية_الإيرانية_بعد_سقوط_نظام_الأسد