مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تقدير_موقف_محمد_فاروق_الإمام_ هذا_يومٌ_له_ما_بَعْدَهُ
قائل هذه الكلمات ’’هذا يومٌ له ما بَعْدَهُ‘‘ هو القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، عندما بدأت معركة حطين (4 يوليو / تموز 1187م)، المعركة الفاصلة بين المسلمين والصليبيين، وهي بالمناسبة وقعت في يوم (سبت)، وانتصر فيها المسلمون انتصاراً ساحقاً، وحرروا المسجد الأقصى وجميع المناطق التي احتلها الصليبيون، وفي مقدمتها ’’مملكة بيت المقدس‘‘.
وكان ليوم حطين ما بَعْدَهُ، أي أن ما بَعْدَهُ ليس كما قبله، وهو ما قاله قادة المقاومة الفلسطينية اليوم عن عمليتهم الكبرى التي أطلقوا عليها اسم ’’طوفان الأقصى‘‘، اجتاحوا المستوطنات وسيطروا على المعسكرات وهزموا قوات الجيش الصهيوني المدججة بأحدث وأقوى أسلحة العصر.
سبت حطين بالأمس انتصار خلَّده التاريخ وسبت اليوم سجلت فيه ’’حركة حماس‘‘ انتصاراً جديداً يشبه ما تحقق في سبت حطين، ولو بشكل مختلف، على الأقل في مقدار ما تحقق على الأرض، لكنه يوم سيكون له ما بَعْدَهُ.
الدولة العِبْرِيَّة وبالنظر إلى ردة فعلها الإجرامية بقصف غَزَّةَ بشكل همجي وبربري، تُكرّر نفسها وجرائمها التي ترتكبها منذ أكثر من سبعين سنة، الإجرام لغتها الوحيدة، تمارسه حين تنتصر وحين تنهزم، حين تنام وحين تستيقظ، حين تدخل في انتخابات وحين تخرج منها، حين تفرح وحين تحزن، فلا جديد فيها إذاَ، الجديد كان في الطوفان الذي خرج ليغمر المستوطنات ويجتاحها، ويستولي على المواقع العسكرية، يأسر الضباط والجنود ويسيطر على الأرض والمنشئات، ولا يزال ممسكاً بزمام المبادرة سياسياً وعسكرياً وأمنياً وإعلامياً.
سيكون لهذا الحدث كما لهذا اليوم ما بَعْدَهُ، بعيداً عن أحاديث المرجفين الخائفين الذين يخشون غضب الصهاينة أو يرجون رضاها، فما حدث ليس أمراً عادياً، والكيان الصهيوني نفسه يدرك ذلك أكثر من غيره، فاللصوص الذين تسللوا إلى الأرض ذات يوم، يدركون جيداً ما معنى أن يسحب أصحاب الأرض البساط من تحت أقدام الغزاة، ويستعيدوا الأرض والقضية والوطن ويطردون الغزاة إلى الجحيم.
تأتي معركة طوفان الأقصى في ظل بيئة عربية وإقليمية ودولية غير مواتية، لا بل تحولت مع مرور الوقت إلى بيئة غير صديقة للفلسطينيين ولمقاومتهم، وتعمل كلما مَرَّ الوقت لصالح الاحتلال الصهيوني، في ظل استمرار الانحياز الغربي، وبالذات الأمريكي، الوقح للاحتلال رغم فاشيَّته وعنصريته وتطرفه الواضح.
لقد كانت معركة طوفان الأقصى في مواجهة حكومة دينية يمينية فاشيَّة تضم غلاة المتطرفين الصهاينة الذي يتنكرون ليس فقط لحقوق الشعب الفلسطيني، بل ينكرون وجوده ويدَّعون علانية لطرد من تبقى منه على الأرض الفلسطينية وتهجيرهم، وإلى حرق وإبادة القرى والمدن التي يخرج منها المقاومون.
الدولة العِبْرِيَّة التي بَنَتْ جيشها على أساس إثارة الرعب وارتكاب الجرائم واقتحام المساكن والمزارع تقف اليوم مهزومة ذليلة وهي لا تعرف مصير وحدات من جيشها، من بقي منهم على قيد الحياة ومن طواه الطوفان، لا تعرف أعداد القتلى ولا الأسرى، وهي التي كانت تشعل الحروب لأجل الوصول إلى رفات جندي واحد، وحروبها السابقة في غَزَّةَ شاهدةٌ على ذلك، لكن الأمر اختلف اليوم، منذ اليوم غَدَا أَسْر جندي صهيوني أو حتى عدد من الجنود أمراً عادياً، بل ربما تصبح لعبة جديدة يتقنها أطفال فلسطين الذين باتوا يتناقلون أحاديث أَسْرِ الجنود الصهاينة، باعتباره مؤشراً على الإخلاص للقضية وحب الأرض، الأرض التي طالما تعرضت للاعتداء من هذا الجيش الذي جرى تجميعه من كل أصقاع الأرض، ليصبح في مواجهة شعبٍ يرفض أن يموت، ولا ينسى المقاومة والدفاع عن حقه.
لقد عبّرت حماس في أكثر من موضع عن إدراك دقيق ومسبق بطبيعة التحولات في المجتمع الصهيوني والسياسة الصهيونية، فالمجتمع يميل نحو اليمين المتطرف بشكل متسارع، وبدأت مؤسسات الكيان الصهيوني العسكرية والسياسية تأخذ تدريجيا سمة المجتمع المتطرف.
وفي ظل هذا المشهد، ترعى الولايات المتحدة مسار تطبيع العلاقات العربية مع الكيان الصهيوني، وهو تحول جيوسياسي كبير سيؤدي إلى تجاوز القضية الفلسطينية وترك مصير الفلسطينيين تحت تصرف حكومة نتنياهو المتطرفة، وتعمل الولايات المتحدة على دمج الكيان الصهيوني الطُفيلي والشاذ في المنطقة؛ وبناء نظام إقليمي جديد، بالموازاة يواصل مسار التطبيع طريقه دون عقبات كبيرة، ويأخذ موضعه في البيئة السياسية للمنطقة بما له من تأثير على الموقف العربي والإسلامي من الكيان الصهيوني.
في مواجهة ذلك، كان لدى الفلسطينيين خيارات محدودة لمنع تصفية القضية وحسم الصراع لصالح الكيان الصهيوني، والتصدي لمسار دمج هذا الكيان الغريب في جسد الأمة، ومنحه وضعية المشاركة في تقرير مصيرها، والخيار الأكثر فاعلية هو المقاومة العسكرية من غَزَّةَ، والتي صممت شكل المعركة الحالية كي تعطل مسارات تصفية القضية وتجاوز الفلسطينيين عبر مسارات محلية وإقليمية ودولية.
تضم الحكومة الصهيونية الحالية أحزابا يمينية دينية قومية متطرفة، ولهذه الأحزاب برنامج أيديولوجي ديني يتعلق بتهويد القدس والسيطرة عليها بشكل كامل، وهدم المسجد الأقصى أو إجراء تغييرات حقيقية على وضعه، ولم يَعُدْ هذا البرنامج يمثل شعارات لمجموعات سياسية ودينية معزولة في المجتمع الصهيوني، بل أصبح برنامجا تتبناه الحكومة وتُقرر له ميزانيات وأدوات.
لقد وضع الهجوم المباغت لحماس دولة الاحتلال الصهيوني في مأزق من الخيارات المتاحة، فالخيارات العسكرية الصهيونية باتت تقليدية، وسبق تجريبها مراراً دون أن تحدث فارقا في المعضلة التي تواجهها مع المقاومة في قطاع غَزَّةَ، فالهجمات الجوية بالطائرات والقصف المدفعي قد تكون قادرة على إلحاق أضرار في البنية التحتية والمباني في قطاع غَزَّةَ، ولكن الاحتلال يدرك أن هذا لن يُجدي نفعاً في دفع حماس للتراجع.
لكن حكومة الاحتلال ستعمد في كل الأحوال لهذا الخيار ابتداءً، نظراً لحاجتها لاستعادة صورتها وثقة الجمهور الصهيوني والحلفاء الغربيين بالجيش والمنظومة الأمنية الصهيونية، وقد تعرضا لضربة كبيرة سيكون لها تداعيات على ثقة الأطراف الدولية والجمهور الصهيوني.
أما الخيارات الأخرى المتاحة فتتعلق بعمليات برية جزئية أو شاملة ضد قطاع غَزَّةَ، إلا أن ذلك يعتريه جملة من التحديات؛ أبرزها العدد الكبير من الأسرى الذين استطاعت حماس جلبهم إلى قطاع غَزَّةَ، وهم حسب تقديرات أولية بالمئات، وهو ما سيعرضهم لخطر كبير قد لا تستطيع حكومة دولة الاحتلال الصهيوني تبريره.
وثاني تحديات العمليات البَرَّيَّة أن جيش الاحتلال الصهيوني سيعمل في مناطق سكنية مكتظة، وسيسبب ذلك ضحايا بين المدنيين يصعب تحمله على صعيد المجتمع الدولي، مما ينقل الإدانة الدولية ضد دولة الاحتلال وربما الولايات المتحدة، التي تعلن عن دعمها للصهاينة وتسعى لإرسال مساعدات عسكرية.
وإن كان الأداء القتالي النوعي الذي ظهرت به حماس في هجومها على المواقع العسكرية والمستوطنات في محيط قطاع غَزَّةَ، سيوضع في حسبان صانع القرار العسكري والسياسي لدى الكيان الصهيوني، فإن الخسائر البشرية الكبيرة؛ والتي بلغت حصيلتها في اليوم الثاني من العملية أكثر من 700 قتيل و2500 مصاب بالإضافة للأسرى، قد تزيد بدورها من تخوف صناع القرار الصهيوني.
ويأتي هذا التصعيد في المنطقة على خلاف الرغبة الشديدة لإدارة بايدن منذ توليها الحكم في واشنطن، فهي سعت وبذلت جهوداً كبيرة لاستقرار المنطقة ومنع اندلاع صراعات فيها، نظرا لحاجتها التركيز على الصراع في روسيا، وإعادة ضبط استراتيجيتها الدولية في الشرق الأوسط، في سياق تنافسها المحموم مع الصين ورغبتها في تكريس قيادتها الدولية.
كل هذه التحديات تُعَقِّدُ من خيارات دولة الاحتلال الصهيوني، التي أخرجت خيار الاجتياح البَرِّيّ من تفكيرها الاستراتيجي للتعامل مع غَزَّةَ بعد حرب عام 2014م، وجنحت بدلاً من ذلك لخيارات احتواء غَزَّةَ، وتنفيذ استراتيجية المعركة بين الحروب، والتي تستند على الجهد العسكري الجوي.
وعليه، فإن وضع خيار العمليات البَرَّيَّة ضد غَزَّةَ سيكون بمثابة مقامرة كبيرة لجيش الاحتلال الصهيوني، الذي أظهر هشاشة غير مسبوقة في أدائه الاستخباري والعملياتي، كما تثبت التجربة مع نتنياهو أنه يميل للحذر في التعامل مع مثل هذا النوع من التحديات، وسيكثف جهده للوصول للوضع السابق، ما قبل السابع من أكتوبر / تشرين الأول، من خلال محاولة التنسيق مع الولايات المتحدة وبعض الدول العربية الحليفة لواشنطن، للتأثير على حماس للقبول بوقف لإطلاق النار.
حتى اللحظة، استطاعت حماس أن تقلب الطاولة في الوضع الفلسطيني وفي المنطقة بِرُمَّتها، وأن تؤكد صعوبة تجاوز الفلسطينيين في أي محاولة لتصفية قضيتهم، كما تؤكد حماس على ريادتها في البيئة السياسية الفلسطينية وأنها تكرس قدراتها العسكرية والسياسية في مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه الفلسطينيين، على مستوى المساس بالمقدسات واستفراد جيش الاحتلال والمستوطنين بالضفة الغربية.
إنَّ تمكّن حماس من أَسْرِ هذا العدد الكبير من الجنود والمستوطنين سيجعل لها اليد العليا في تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، الأمر الذي سيعزز من مكانتها وشعبيتها بشكل شبه مطلق، في ظل تراجع كبير للسلطة الفلسطينية التي تعاني انسدادا مطبقا في مشروعها السياسي الذي لم يتبقَ منه شيء، وتراجعٍ في شعبيتها في الضفة الغربية.
إن مشاريع التطبيع مع دول عربية وازنة مع الكيان الصهيوني تحتل بلا شك مكانة في عقل حماس، وهي حريصة على تعطيل هذا المسار، أو في الحد الأدنى منع تداعياته من الإضرار بالقضية الفلسطينية.
لقد نجحت حماس في دفع جميع الأطراف لإعادة حساباتها، ووجهت صفعة كبيرة للكيان الصهيوني وقادته السياسيين والعسكريين، وكسرت صورتها في تصورات صناع القرار الدوليين والإقليميين، ومن المتوقع أن يكون لذلك تداعيات داخل الكيان الصهيوني نفسه وفي المنطقة وعلى مسارات التطبيع، ولا تزال المعركة في غَزَّةَ وما حولها في بدايتها ولم تأخذ شكلها النهائي المفتوح على احتمالات عديدة.
هذه المعركة ستكون قاسية وسيمارس فيها الاحتلال كل ما يستطيع من قتل وتدمير وتخريب، وستقف خلفه قوى الظلم والإجرام في العالم، لكن ذلك لا يعني أبدا أنه سيكون قادرا على تحقيق أهدافه أو كسر شوكة الفلسطينيين ومقاومتهم.
ورغم أننا ما زلنا في بداية المعركة، التي وصفت بحق من قبل الكثير من المحليين بأنها استثنائية وغير مسبوقة في تاريخ الكفاح الفلسطيني، ولم يتضح بعد كيف يمكن أن تتطور في الأيام والأسابيع القادمة، فإننا يمكن أن نسجل الملاحظات الآتية:
1-البراعة في اختيار التوقيت، حيث ما زال هذا الشهر يحمل في العقل والوعي العربي والفلسطيني مخزونا كبيرا من الكرامة والعزة والفخر، فنجحت القسام في إعادة الاعتبار لكل معاني الكرامة والعزة والقدرة والنصر لدى الفلسطينيين والعرب، وفي الوقت ذاته فتح نافذة للعقل الصهيوني على ذاكرة مكتظة بالهزيمة والضعف والإذلال والخوف في المستقبل.
2-العبقرية في التخطيط والتكتيك العسكري ومباغتة جيش الاحتلال وأذرعه الأمنية والاستخبارية واختيار ساعة صفر قاتلة لبدء المعركة، فكانت صبيحة يوم نهاية الأعياد ونهاية الأسبوع، وتوضح المشاهد القادمة من المعركة حالة الجنود في تلك الساعة بالتحديد.
3-التفوق النوعي الذي أظهرته كتائب القسام تدريباً وتخطيطاً وإدارة وإقداماً وقدرة على التنفيذ المحكم لما خططوا له، وصولاً إلى نتائج أذهلت العدو وفاجأت الأصدقاء.
4-كشف مدى هشاشة وضعف جيش الاحتلال على أكثر من صعيد، وبالذات على مستوى الأفراد والمقاتلين.
5- شكَّلت هذه المعركة لدى الكثيرين سيناريو مُصغراً لمعركة التحرير الممكنة، فعلى الصعيد الفلسطيني، ستعيد هذه المعركة للفلسطيني ولمناصريه الثقة بأنفسهم وبقدرتهم على الانتصار ودحر الاحتلال، وستحرر العقل العربي والإسلامي من وَهْمِ التفوق العسكري للدولة العِبْرِيَّة، وعلى الصعيد الصهيوني سَتُفقد هذه المعركة المجتمع الصهيوني بمكوّناته المختلفة الثقة في نفسه وفي قدرته على الاستمرار في احتلاله وغطرسته، وستجعل جنوده يفكرون كثيرا قبل التقدم في أي جبهة كانت. كمان أنها سَتُفقده الثقة في قيادته العسكرية والسياسية مما سيكون له آثار كبيرة على المدنيين القريب والبعيد.
6- أثبتت معركة طوفان الأقصى أن القضية الفلسطينية لها حُماة، وأنها ليس حِمَى مستباحاً يتصرف بها أو يتحدث باسمها كل من يشاء وبما يشاء، وأن الشعب الفلسطيني ومقاومته لا يمكن أن يُفَرِّطوا بوطنهم وبقضيتهم وبحقوقهم المشروعة حتى وإن تُرِكوا لوحدهم، فهم حراس وطنهم وحُماة حِماهم، وما زالوا يثقون بقدراتهم وبدعم وإسناد شعوب الأمة والقوى الحية فيها، مما يدفعهم للتضحية بكل ما يملكون إذا ما تهدد الخطر مقدساتهم أو قضيتهم.
ختاماً:
فإننا ودون أي مبالغة نجد أنفسنا أمام نموذج فلسطيني مقاوم مختلف، وأن المقاومة بقيادة كتائب القسام تشكل حالة فلسطينية غير مسبوقة على الأرض الفلسطينية، فهي جادة صادقة مؤمنة تماماً بما تفعل وعاقدة العزم على التحرير لا تُظهر في هذا الطريق أي تردد أو تهاون.
المراجع
– الجزيرة – 9/10/2023م.
– المشهد اليمني – 8/10/2023م.
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تقدير_موقف_محمد_فاروق_الإمام_ هذا_يومٌ_له_ما_بَعْدَهُ