مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_دراسات_دينية_عبد_العزيز_الحاج_مصطفى_جدلية_العلاقة_بين_العدل_المطلق_وأقدار_الناس
الدارس للتاريخ الحضاري العام؛ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري يلاحظ بوضوح أن ثمّت علاقة بين العدل المطلق الذي هو خصوصية ربانية وأقدار البشر. وأن معشر الكتابيين من يهود ونصارى ومسلمين شَغَلُوا الحيز الأكبر من ذلك التاريخ، وأن السيادة كانت ولا تزال لهم منذ القديم وإلى اليوم، وأن الفاصلة التاريخية بين صلاحهم وفسادهم كانت بمثابة المقدمة الأولية للتغيير الرباني، ولقيام الدول وسقوطها، ولانتقال السيادة من جماعة إلى أخرى، ومن جنس إلى آخر، وذلك على وفق النواميس الربانية الحاكمة بأقدار البشر جميعا.
فالذي يقرأ التاريخ ويقف على الفواصل الرئيسة فيه؛ ومنها الأيام، يدرك حقيقة مغزى قوله تعالى: ’’وتلك الأيام نداولها بين الناس‘‘ آل عمران: (140). وحقيقة مغزى قوله تعالى: ’’ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض‘‘ البقرة: (251). فمن هاتين الآيتين يمكن أن نستبين فكرتين رئيستين تعدان غاية في الأهمية. والفكرتان هما:
أولا- فكرة التداول:
التداول من حيث الواقع، من الأساليب التي كان عليها البشر خلال أحقاب التاريخ، وَقَلّ من الأمم من لم يكن لها يوم من التاريخ مارست فيه الحكم شأن الأمم الأخرى، وَعَلَتْ ولو لبعضٍ من الوقت، ثم حكمت على نفسها بزوالها، بسبب من فسادها وعتوها. وهذا يعني باختصار: التناوب في السلطة والسيادة، فضلا عن إتاحة الفرصة أمام الناس جميعا، ليأخذوا دورهم في الحياة، وليجربوا حظهم، وليعطوا الإنسانية ما عندهم، وذلك في إطار زمن محدد، ثم يتوارون عن الأنظار، تاركين الفرصة لآخرين من الناس. وعلى وفق مفهوم العدل المطلق الذي اختص به الحق سبحانه الصالحين من عباده. قال تعالى في سورة الأنبياء: (105) ’’ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذِّكْرِ أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‘‘. و السياق في هذه الآية يدل على أن التداول يتم بانتقال المسؤولية إلى الأصلح في هذه الحياة ثم يكون العدول عن مبدأ الصلاح مقدمة للتغيير. وهكذا دواليك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وذلك على وفق السنن الربانية الحتمية والمطلقة.
ثانيا- فكرة الدفع الرباني:
الدفع الرباني بمعناه العام: انتصار ضد طغيان الأقوى من البشر، الذي قد تُسَوِّلُ له نفسه العدوان على الناس على أساس من الغلبة المشفوعة بالسيادة والسيطرة. فيهيىء الله لذلك الأقوى من عباده من يحد من جبروته، ويخضد شوكته، ومن ثم يديل دولته التي قُدِّرَ لها أن تطغى بعد سيادةٍ وغلبة. وتُعَدُّ مقدمة سورة الإسراء الآيات (1-7) التي فَصّلَت الحديث عن الإفسادين والعُلوين، اللذين وَعَدَ بهما بنو إسرائيل مثالا شاهدا على فكرتي التداول والدفع معا. قال تعالى عن عُلو بني إسرائيل الأول وعن إفسادهم: ’’فإذا جاء وَعْدُ أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أُولِي بأسٍ شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولا‘‘، ثم قال في العُلو والإفساد الأخير: ’’فإذا جاء وعد الآخرة، ليسوؤا وجوهكم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما عُلو تتبيرا‘‘ وهاتان الآيتان اللتان اختصتا بالحديث عن فساد بني إسرائيل وعُلوهم فضلا عمَّا ذكر من آيتي التداول والدفع تعدان الدليل القاطع على الفكرتين معا. وهما معا ليستا في حاجة إلى برهان.
وهاتان الفكرتان – وهما ربانيتان – تتعانقان تعانق الوقف في الموقف والأسلوب، إذ أن كليهما تتضمنان فكرة العدل المطلق، وتشملان البشر جميعا وبدون استثناء من ناحية، وتحدان من طغيان القوى الغاشمة من ناحية أخرى، وتمنعانها من أن تفرض هيمنتها المطلقة إلى الأبد، أو أن تفسد وتجور إلى ما لا نهاية.
واستقراء التاريخ من خلال عصوره المختلفة، ودوله المتتابعة، وأيامه المشهودة، يقدم أكثر من دليل على الفكرتين، وعلى كونهما موضوعتين موضع التطبيق منذ القديم وإلى الآن، وعلى أساس من الإنصاف والعدل الذي اتسمت به السنن الربانية. فعلى سبيل المثال نلاحظ أن الحق سبحانه اختص أصحاب الديانات السماوية (اليهود والنصارى والمسلمين) كلاً منهم بفرصتين تاريخيتين من فرص العُلو وجعل كل فرصة منها محكومة بصلاح أصحابها وفسادهم. وموعودهم جميعا الجنة والنعيم، أو سواء الجحيم وذلك تبعا لصلاحهم وفسادهم بصورة عامة.
والتفضيل في عُلو أصحاب الديانات الثلاث وفسادها يكون حسب الآتي:
أولا- عُلو بني إسرائيل: إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. وبنو إسرائيل هم أبناء يعقوب بعامة؛ يوسف وإخوته. وكان مبدأ ظهورهم بعد (حادثة الجب) وتمكين يوسف بمصر. ثم كَرَّتِ الأيام، فكان مبعث موسى عليه السلام وغرق فرعون، وعودة بني إسرائيل إلى فلسطين بقيادة يوشع ابن نون سِبط يوسف عليه السلام، وتَغَلُّبهم على الكنعانيين، الظهور الأكبر، إلا أن عُلوهم المذكور في القرآن كان في عصر داود وسليمان عليهما السلام. وقد جاء في سورة النمل: ’’ولقد آتينا داود وسليمان علما، وقالا: الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15) وورث سليمان داود وقال: ياأيها الناس عَلِّمْنَا منطق الطير، وأوتينا من كل شيء. إن هذا لهو الفضل المبين (16) وحُشِرَ لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يُوزَعُون (17)‘‘. والحديث بعد ذلك عن عظمة سليمان ومبلغ ما وصل إليه من القوة يطول وقد سُخِّرَت له الريح وأُسِيلَ له القِطر وأوتي من القوة ما لم يؤته أحد من قبل أو بعد. كان ذلك منتهى عُلو بني إسرائيل الأول، ثم تدهورت دولتهم بعد ذلك فَدَبَّ بينهما الاختلاف والفرقة، فجاءهم بُختنصّر من الشرق من أرض بابل، فغلبهم وساقهم أسرى معه إلى العراق، وقد توالت عليهم أيام الشتات، حتى دخلوا الغيتو، وأفرطوا في العزلة وذلك لمدة تزيد على ألفين وخمس مئة سنة على أقل تقدير، ليعود إليهم الاعتبار بعد ذلك، وليبدأ عُلوهم الثاني الذي هم فيه الآن.
ثانيا- عُلو النصرانية: الأمم الغربية بعامة تتوازى من حيث أقدارها مع الأمم الشرقية وتكون الأيام بينها سجالا، فهي موزعة بين غالب ومغلوب، ومُعتدي ومُعتدَى عليه. ففي الحديث ’’أشد الأمم وطأةً عليكم الروم وغلبتهم مع الساعة‘‘. وماهم فيه الآن من غلبة وقوّة يثبت صحة ذلك. أما عُلوهم الأول فقد سبق الإسلام بقرون طويلة فتاريخهم يتوزع على عصرين. العصر الوثني وهو يمتد من سنة 1500ق.م، وهو مبدأ الدولة الرومانية إلى سنة 325م، وهو التاريخ الذي أعلن فيه الإمبراطور قسطنطين المسيحية دينا رسميا للدولة بعد اعتناقه ذلك الدين. ومنذ سنة 325م، تصبح الدولة الرومانية الدولة المسيحية التي تعمل على بسط نفوذها في العالم القديم كله فتمتد حدودها من بريطانيا إلى قزوين. ومن الشمال الأوروبي إلى الصحراء الإفريقية الكبرى، ومن إسبانيا إلى بلاد ما بين النهرين، وإلى الشام والبحر الأحمر، وإذا أُخِذَ في الحسبان ما كانت عليه من قوة عسكرية ومن تنظيم وإدارة وعمران وزراعة تكون قد بلغت في عُلوها الحضاري مبلغا لم تبلغه من قبل أية دولة في العالم القديم، ثم أخذت تتغشاها الأمراض الحضارية التي تتفشى عادة الدول المُعَمِّرَة من انقسام وفرقة وفساد وظلم كاد يشمل الناس جميعا. وما فعُلوه في عهدهم الوثني مع اليهود وقد حاصروا القدس سنة 70م ودمروا المعبد اليهودي وساقوا أهلها أسرى، وباعوهم بأبخس الأثمان في أسواق النخاسة دليل على بطشهم وجبروتهم. وقد ظلوا كذلك إلى أن فاجأهم المسلمون بالإسلام. وقد كان ذلك إيذانا بانتهاء عُلوهم الأول، وببداية عُلو المسلمين.
ثالثاً- عُلو المسلمين: يبدأ عُلو المسلمين ببداية نبوة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم فهو عُلو دين، بخلاف عُلو النصارى الذي كان عُلوا خاصا بالروم في العهدين الوثني والمسيحي. وبخلاف عُلو اليهود الذي كان عُلو بني إسرائيل بخاصة. ولذا اتسم الإسلام بعالميته وبكونه الماعون الذي اتسع لأمم شتى كثيرة؛ كالعرب والفرس والترك والكرد والبربر. وكل منهم كان له دور في الحياة وكل منهم أخذ وأعطى، ولم يأوِ إلى الظل إلا بعد أن أضاف شيئا في تاريخ الحضارة الإسلامية. وقد كان له من أيامها ما يُشهَدُ له بالفضل، بصرف النظر عن الخصائص العرقية والقومية التي كانوا عليها. وقد كان الإسلام منذ مبدئه الأول متسارعا في الظهور، فما إنْ استقر النبي في مهجره؛ في يثرب المدينة المنورة، حتى وسّع دائرة ظهوره. وقد استطاع لأول أمره أنْ يواجه مشركي العرب قاطبة، وأن يخضد شوكتهم وأن ينتصر على أكبر دولتين في العالم؛ الفُرس والروم، وأن يبني وخلال مئة عام دولة إسلامية تمتد من جبال البرنية على التخوم الإسبانية الشمالية، إلى الهند والصين، ومن البحر الأسود والقرم والقفقاس، إلى البحر الأحمر والصحراء الأفريقية الكبرى. وأن يتخطى التخوم المنيعة إلى قلب القارة الأوروبية. يقول فيليب حتّي وهو من المستشرقين في كتابه الموسوم بـ (العرب تاريخ موجز): ولو انتصر العرب في معركة بواتيه (بلاط الشهداء) لأصبحت شُرفات الكنائس في باريس ولندن وبرلين شُرفات مآذن تدوي فيها صيحات الله أكبر. كان ذلك بحدود مئة وسبع عشرة من الهجرة. ولم يتوقف ذلك فقد وسّع الإسلام مناطق نفوذه لتشمل أجزاء كثيرة من أوروبا تمثّلت في أُخريات أيامه بحصار (نيقولا بوليس) عاصمة النمسا في عهد سليمان القانوني (924-974هـ). ومعنى ذلك أن العُلو الإسلامي الأول دام قرابة ألف سنة، وأنه أعطى الإنسانية القيم والمبادئ، وهي مستمدة من الإسلام، التي بها تعمر الحياة، وتزدهر الحضارة. يقول أرنولد توينبي وهو من المؤرخين الأوروبيين: لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب.
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_دراسات_دينية_عبد_العزيز_الحاج_مصطفى_جدلية_العلاقة_بين_العدل_المطلق_وأقدار_الناس