مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_دينية_فؤاد_البنا_مُحاولات_الغرب_لنَزْعِ_أسنان_الإسلام_(2-3)
عرفنا في المقال السابق أن الذين يُمثّلون البُعد الاستعماري في الغرب يعيشون في حرب حضارية لا هُدنة فيها؛ من أجل نزع أسنان الإسلام، بحكم أنه الدين الأكثر اتباعاً بعد المسيحية، والأشد فاعليةً وتأثيرا بين سائر الأديان، ثم إن لأمته خطوط تماس بآلاف الكيلوات مع العالم الغربي من سيبيريا حتى موريتانيا والسنغال، كما شرح ذلك صموئيل هنتنجتون بوضوح في كتابه ذائع الصيت (صِدام الحضارات)!
ويبدو أن موجة العداء تزداد عتواً منذ اعتلاء الرئيس الجمهوري المتطرف دونالد ترامب عرش أمريكا، حيث إنه تعبير صارخ عن تَقدم اليمين المتطرف بقوة في سائر بلدان الغرب، أولئك اليمينيون والأصوليون الجدد الذين يضعون الآخرين في مقابلتهم ويُضمرون لهم الكراهية الشديدة، ويَحملون راية العداء ضدّهم ولا يتورّعون عن دق طبول الحرب في معارك (صِدام الحضارات)، ووصل الحال ببعضهم إلى حد أنهم يُفلسفون الكراهية ويُشرعنون العداوة والهيمنة باسم العلم، حيث يزعمون أن الرجل الأبيض ذو عقل متفوّق على سائر الأجناس والألوان، بل ويستخدمون الدين بالنسبة لغُلاة اليمين المتطرف من البروتستانت والكاثوليك لتأصيل هذا الإجرام، ولاسِيَّما الأمريكان الذين يتشدّقون بأن الله حمّلهم رسالة في أن يرتقوا بالعالم نحو نمط العيش الأمريكي!!
وهذا يعني بالضرورة أن معركة (أمْرَكَة العالم) التي تتم بأفْتَك الصواريخ والطائرات بدون طيار إنما تتم بتوجيه السماء ومباركة المسيح الذي قيل إنه جاء للتضحية بنفسه من أجل التكفير عن أخطاء بني آدم، بينما صار بعض من يزعمون الانتساب إليه يسارعون للتضحية بمئات الآلاف من أجل التكفير عن طاعاتهم إن كان لهم من طاعة، وإذا كان المسيح قد تضرّج بدمه على الصليب وفق رؤيتهم فإن هؤلاء يُضرِّجون أنفسهم بدماء الأبرياء أو المخالفين للرؤية الغربية ومن يرفضون دخول بيت الطاعة الأمريكي، تحت دعاوى عديدة وأهمها الإرهاب!!
وفي هذا الطريق المُتّسم بالزّيف والمليئ بالأكاذيب، تم قتل الملايين من المدنيين الأبرياء في مختلف أصقاع العالم في حروب عبثية عديدة ولاسِيَّما بعد انتهاء توازن الرعب بسقوط الاتحاد السوفييتي سنة 1990م وتفرّد أمريكا بإدارة دفّة العالم، فقد تم شنّ حروب على عدد من الدول، وتم تدشين هذه المرحلة بالحرب على العراق بحجة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل والتي اتضح أنها أكذوبة كبيرة، وأنهم إنما جاؤوا من أجل السيطرة على منابع النفط وتصحيح ما سمّاه بعضُهم بالخطأ الإلهي الذي أعطى النفط لمن لا يستحقونه حسب رؤيتهم المتغطرسة حتى على الأقدار!!
وقد نال البلدان الإسلامية نصيب الأسد من أسلحة الموت التي تريد الارتقاء بالمسلمين المتخلفين في أفغانستان والعراق وباكستان واليمن والصومال والسودان وسورية وليبيا، ووصل الأمر إلى حد قتل آلاف الأبرياء حتى وفق الرؤية اليمينية المتطرفة نفسها، كما في قتل المئات في ملجأ العامرية في العراق، والمئات الذين قُتلوا في مستشفيات أو في أعراس في قمم جبال أفغانستان وباكستان، أو في قرى يمنية في شبوة وأبين ومأرب وحضرموت والبيضاء !!
سِنُّ القوة:
تتّسم رؤيةُ القرآن للقوة بالشمول كما في قوله تعالى: (وأعِدّوا لهم ما استطعتم من قوة…)، ففي العربية الفصحى التي تنزّل بها القرآن الكريم، فإن النَّكِرة تفيد العموم والاستغراق، وكلمة قوة الواردة في الآية هي نكرة وتفيد كل أنواع وأبعاد القوة، حيث تستغرق شتى المفردات التي تساهم في قوة الأمة مهما كانت، من قوة عسكرية، وقوة اقتصادية، وقوة سياسية، وقوة ثقافية وإعلامية، وقوة اجتماعية وقوة نفسية. ولأن قوة المسلمين تنعكس على قوة الإسلام والعكس صحيح، فإن روّاد حرب الحضارات ودعاة الهيمنة والاستغلال في الغرب يسيرون في كل سبيل ويستخدمون كل وسيلة؛ من أجل أن لا يسير المسلمون في دروب القوة مع تدمير نواحي القوة الموجودة.
ورغم أن العالم الإسلامي هو السوق الرئيسة لأسلحة الغرب، إلا أنهم يشترطون أن لا تُستخدم هذه الأسلحة ضد إسرائيل وأصدقاء الغرب، بمعنى أنها مصمّمَة لقتل المسلمين فقط، ويعملون كل ما يلزم من أجل أن تظل الأنظمة مستهلكة غير منتجة لأهم وأخطر هذه الأسلحة، وعلى سبيل المثال فإن طائرات الأواكس لا يقودها إلا أمريكيون في البلدان التي اشترت هذه الطائرات منذ زمن!
ومن المعلوم أن أمريكا قامت بتجميد صفقة صواريخ مع تركيا بعد فشل الانقلاب وتصاعد الاتهامات التركية لها بأنها دعمت الانقلاب، هذا رغم أن تركيا دولة صديقة لها وبينهما اتفاقات كثيرة تصل إلى حد الدفاع المشترك، عبر عضوية الدولتين في حلف شمال الأطلسي، وكانت أمريكا قد امتنعت منذ زمن طويل عن تسليم طائرات إف 16 لباكستان رغم صداقتها معها، لأنها تحاول أن تعتمد على نفسها في الصناعة العسكرية!
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_دينية_فؤاد_البنا_مُحاولات_الغرب_لنَزْعِ_أسنان_الإسلام_(2-3)
ولما كانت الوحدة أهم مقوّم من مقومات القوة، فها نحن نرى بأمّ أعيننا كيف أن الغزاة الناعمين يتسللون من ثقوب الأمة ويستفيدون من قابليات الوهن والتجزئة فيها، من أجل
إحداث مزيد من التشظي والانقسام، وإشاعة المزيد من التفرق والتشرذم، وذلك بتقسيم المقسَّم وتجزيئ المُجزّأ إلى مزيد من الوحدات الأصغر، ولذلك نجد التركيز على البلدان الكبيرة أكثر منها كتركيا وباكستان والسعودية والسودان وإندونيسيا والعراق واليمن والجزائر والمغرب!
ولو تَمعَّنا في خارطة العالم الإسلامي لوجدنا بأن العدو يقوم الآن بتفجير القنابل الطائفية والعِرْقية والدينية الموقوتة والتي لم تُزلها أنظمة الاستقلال بل عزّزتها في كثير من الأحيان لحسابات ضيقة، إنهم يقومون بتفجير القنابل الموقوتة بكل ما يمتلكون من مكرٍ ودهاء، حتى لا يظهرون بصورة واضحة في العراء وهم يُحرّضون ويُعربدون، ممَّا قد يستفز عواطف الشعوب لتسير عكس المخططات الغربية القائمة، فيستيقظ حينئذ ما يسمونه بالمارد الجَبّار الذي يحذرون يقظته وما يزالون يكرسّون الظروف التي تبقيه خامدا خاملاً!
ولو أخذنا بعض الأمثلة لوجدنا بأن المنطقة الإسلامية يعاد تقسيمها من جديد بعد مرور أكثر من قرن على اتفاقية سايكس بيكو، فالقنبلة الطائفية يتم تفجيرها في عدد من البلدان، حيث أن الشيعة مثلاً صاروا دولة مسيطرة على الدولة في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن ويُغرّدون خارج سرب الأمة حتى في الأعياد الدينية، ويعملون بشكل حثيث لكي يصبحوا دولة داخل الدولة في كل من البحرين وأفغانستان وباكستان والسعودية ونيجيريا، رغم أنهم أقلية في كل هذه البلدان باستثناء البحرين، ويعملون بصمت ودهاء كـ ’’لُوبيات‘‘ ذات تأثير يفوق حجمها بكثير، وذلك في أكثر البلدان الإسلامية الأخرى ولاسِيَّما في إندونيسيا والجزائر ومصر ودول غرب إفريقيا وبنجلاديش ووسط مسلمي الهند!
ولو أخذنا العراق كمثل لوجدناه نموذجاً للتشظي الخلوي الذي يراد لهذه الأمة حتى لا تقوى على الوقوف، فالعراق بما يمتلك من مقومات طبيعية وبشرية ومن ثروات متنوعة تتراوح بين الطاقة النفطية التي تجعله ينافس السعودية على المركز الأول، ومن ثروات مائية وأراض زراعية تجعله ينافس السودان في هذا المضمار، بجانب موقعه الجغرافي وإرثه التأريخي العريق، كل ذلك لم يُغنِ عنه شيئا حينما سرت إليه أدواء الفُرقة، فقد انفجر على أساس طائفي بين الشيعة والسُّنَّة والإسماعيلية وبقايا الخوارج، وعلى أساس عِرْقي بين العرب والأكراد والأتراك والفرس، وعلى أساس ديني بين المسلمين والمسيحيين واليزيديين والصابئة، ثم إن حدوده متوترة وتكاد أن تشتعل؛ بسبب وضع براميل بارود فيها من قبل الذين وضعوها في مطلع القرن الماضي، فهناك خلافات حدودية للعراق مع إيران والكويت والسعودية وتركيا وسورية!!
سِنُّ المال:
يعاني العالم الإسلامي نتيجة بُعدهِ عن القيم الحضارية في الإسلام، من عطالة وبطالة أعداد كبيرة من أبنائه، حيث تعاني ثقافة العمل والإنتاج من الضمور وتعاني طاقات القوة من الوهن، مما أثَّر على ضعف مواردهم ودُخولهم وتخلّف إنتاجهم واقتصادهم، حتى أن إنتاج الفدَّان العربي من السلع الزراعية يساوي ثلث إنتاج الفدَّان الأوروبي ورُبع إنتاج الفدَّان الأمريكي، وصار العرب يستوردون أكثر من نصف حاجاتهم الزراعية من دول غربية صناعية، هذا رغم أن مجتمعاتنا تُقيّم على أنها مجتمعات زراعية!!
ورغم هذا الفقر والتخلف فقد حبا الله العرب بثروات طبيعية ضخمة، وعلى رأسها النفط والغاز اللذان يُعدّان المحرك الرئيس لعجلة الحضارة في زماننا، غير أن سوء تعاملهم مع ثرواتهم قد عرّضهم لما يمكن تسميته بانتقام الثروة، حيث جلبت هذه الثروات المؤامرات من كل حَدْبٍ وصوب، بجانب أنها أظهرت المزيد من مظاهر التخلف في كثير من مجتمعاتنا، وهي أمراض النَّهَم على الاستهلاك والسّفَه في صرف الأموال في غير مواضعها، حيث نجد إسرافاً في مواضع التّرف وتقتيرا في مواضع الإنتاج والعلم والبحث العلمي، وذلك بصورة مثيرة للتقزز والاشمئزاز، حتى أن صورة العربي في الذهنية العالمية والغربية على وجه الخصوص صارت مجرد برميل نفط يفور بالانفعالات الحمقاء والثورات الهوجاء، بلا عقل يتفكر في المصالح ولا قلب يتدبر العواقب، مما عزّز الصورة السلبية التي يطرحها غلاة المركزية الغربية والذين يرون أن الرجل الأبيض متفوق على الملوّنين بصورة خَلْقية طبيعية، والذين يبدو أنهم متأثرون في عقولهم الباطنة بما ورد في العهد القديم وفي التلمود عند اليهود من أن الله خلق الأغيار على أشكال آدمية ليستأنسوا بها، وإلا فإنهم في الأصل حمير خلقها الله ليركبوها هم بصفتهم (أبناء الله وأحباؤه)!!
لقد بدا أن الطاقات العربية تتعاظم بصورة قوية بعد ارتفاع أسعار النفط وتضاعف مداخيله وبروز مصادر أخرى نتيجة اتجاه بعض الدول إلى توظيف بعض مداخيل النفط في مشاريع استثمارية كبيرة في الثمانينات والتسعينات، لكن الثقوب الكبيرة في وعينا والفجوات العريضة في أسوارنا الاجتماعية سمحت لمخططات الأعداء أن تحيل هذه الأموال إلى أسلحة ترتد إلى صدور المسلمين، وقد تم تدشين هذا الأمر عام 1990م حينما قام العراق بغزو الكويت بضوء أخضر من أمريكا، ولما كانت خطة هنري كيسنجر لهذا الأمر جاهزة منذ 1974م عندما دعا أمريكا لإنشاء قوات تدخل سريع وتكون مهمتها السيطرة على منابع النفط في الخليج العربي، لهذا فقد تم تجميد أموال الخليج العربي والعراق في آنٍ واحد وعلى الفور، ثم تم تدمير العملاق العسكري العراقي بالعملاق المالي الخليجي، ومنذ تلك الآونة والعرب يُقادون من دوامة إلى أخرى!
وقد أدّت السياسات العابثة بأموال وطاقات العرب والمُفرِّطة بسيادتهم وثقافتهم، والتي أصبحت أقرب إلى الخيانات؛ أدّت إلى اندلاع الربيع العربي الذي أحدث زلزالاً هزّ العالم، وكان يبدو أنه سيسلك الطريق الصحيح لإنهاء هذه الخطايا ومعالجة الأخطاء الناجمة عنها، وسيتّجه نحو تقويم الاعوجاجات وتجفيف منابع العبث بأموال الأمة ومقدراتها، ولكن الغرب الاستعماري كان الأسبق والأقدر مرة أخرى، وذلك نتيجة لامتلاكه لبنوك من المعلومات الدقيقة عن كل صغيرة وكبيرة في بلداننا، وبسبب تجهيزه للرؤى المستقبلية والخُطط المُحكَمة، وتسييره لجيوش من السياسيين والإعلاميين والفنانين والاقتصاديين المؤهّلين، بينما ظل العرب يعيشون في حالة عنكبوتية من الصراع المحتدم بين مكوناتهم المختلفة على كل شيئ، ولذلك كله فقد نجح الغرب بالتعاون مع أذياله ممن تربّوا على عينه وصاروا تحت رحمته وحماية عَصاه، نجحوا في إجهاض هذا الربيع عبر ثورة مضادة أحرقت الأخضر واليابس، وأفضت إلى عودة الشكل العسكري للاحتلال الغربي، وفاقمت حالة العبث السافر بأموال الأمة كما هو معاش ومعلوم ولا يحتاج إلى إعلام!!
إن بلدان المسلمين تحصد الثمار العلقمية لهذه الخيانات، وقد ظهرت الثمار المالية بوضوح في بعض البلدان كتركيا والسودان واليمن ومصر وسورية والعراق والتي تراجعت عُملاتها أمام الدولار بشكل خطير خلال الفترة الأخيرة، واندلعت أزمات إنسانية كارثية في بعض هذه البلدان كما في الحالة اليمنية، بينما ما تزال مياه الدولار تسير في بعض البلدان من تحت الأساسات وتقوم بعملها الخطير، حيث يتضاعف التضخّم وتتعاظم الديون، وتتسع الفجوات بين الطبقات بعد أن تضمحل الطبقة الوسطى وتتسع الهُوّة بين الأغنياء والفقراء، مما يُنذر بموجة جديدة من الثورة التي تستحيل في هذه البيئات المسمومة إلى فوضى، ثم يتم تجييرها لصالح الذين يعبثون بالأمة من وراء البحار!
ومن أشدّ الغرائب أن ترى المخططات المعادية للأمة والمستهدِفة لمقوِّمات القوة فيها تنجح في تحقيق أهدافها بكل سلاسة ويُسر، وكأنها تعمل في فراغ ودون وجود أي عراقيل، حيث تنتقل المخططات كل عام من نجاح إلى نجاح أكبر، وها نحن نرى منذ تم استغلال طمع الحوثيين بالسلطة في اليمن، كيف تم العبث بمئات المليارات من الدولارات العربية في ثقوب عديدة وَصَلَ جُلّها إلى خزائن الغربيين بهذه الصورة أو تلك، وفي كل حدث جديد يتم مضاعفة مكاسبهم مقابل مراكمة خسائرنا وإثخان جروحنا، فبعد المشكلة مع قطر تم امتصاص مئات المليارات من كلا الطرفين، وبعد حادثة اغتيال جمال خاشنقجي ها نحن نرى من يمتص ما بقي من الرحيق ويرمي للشعوب بفتات الأزهار رامياً إياها في قارعة الطريق!
وللمأساة بقية.
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_دينية_فؤاد_البنا_مُحاولات_الغرب_لنَزْعِ_أسنان_الإسلام_(2-3)