مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_دينية_أحمد_حَوَّى_مُذَكِّرَة_في_الحجاب_والعلاقات الأُسَرِيَّة_وضوابطها
مقدمة:
كَثُرَت الانحرافات في هذه الأيام العجاف عن منهج الله، وعلى كل المستويات وخصوصاً على مستوى الأُسرة والمرأة، فقد تبرَّجت المرأة وأظهرت محاسنها أمام الرجال، وتشبَّهت نساء المسلمين بغير المسلمات، ووجدت الخلوة بغير المحارم، وصافحت المرأة غير محارمها، وسهرت معهم وخضعت بالقول، وعَمَّت الغِيْبة والنَّميمة والكذب مجالس الناس، وانتشرت الملابس الفاضحة أو التي تحمل الصور الخليعة، وعَمَّت الأفلام والأغاني التي تُرَوِّج لمفاسد الأخلاق، وخالطت المرأة الرجال وتشبّهت بهم، وتَخَنَّثَ الكثير من الرجال، كل هذا مخالفةً لأوامر الله سبحانه وتعالى .
والله تعالى يقول: ’’يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وَقُودُهَا الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‘‘.
فكلٌ مِنَّا مُطالبٌ بأمرين:
مُطالبٌ بوقاية نفسه، ومُطالبٌ بوقاية أهله كذلك، وذلك بتعليمهم شرع الله عزوجل وبحملهم على طاعته عزوجل، فكل منا سفيرٌ إلى أهل بيته وأرحامه ومسؤولٌ عنهم.
ولندرك مدى الحاجة إلى هذه الوقاية فلنتأمل حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى إذ يقول: ’’صِنفان من أهل النار لم أَرَهُما قوم معهم سِياط كأذنابِ البقر يضربون بها الناس ونساءٍ كاسياتٍ عارياتٍ مُميلاتٍ مائلاتٍ رؤوسهن كأسْنِمَةِ البُخْتِ المائلة لا يَدْخُلْنَ الجنة ولا يَجِدْنَ رِيْحَها وإنَّ رِيْحَها لتوجد من مسيرة كذا وكذا‘‘ رواه مسلم.
صَدَقَ رسول الله، إنك لا تكاد تسير في طريقٍ إلا وترى مِصداق خبر النبي عليه الصلاة والسلام، فالكثيرات من بنات المسلمين أصبحن من أهل النار وَهُنَّ لا يَدْرِيْنَ ولا يُبالِيْن، نساءٍ كاسياتٍ عارياتٍ: نساء عليهن كساء ولكن أي كساء هذا الكساء؟ فإمَّا أنَّها ألبسةٌ تكشف عن أجزاء من العورة، وإمَّا أنَّها ألبسة ضيقة تُجَسِّد العورة وتبرز مفاتنها، وإمَّا أنَّها ألبسةٌ رقيقة تَشِّفُ عمَّا تحتها، فهي كاسيةً ظاهراً ولكنها عارية بما أظهرت من مفاتنها، مائلات مميلات: مائلات عن منهج الله وعن الحشمة والعِفَّة مميلات لغيرهن، مميلات للرجال إلى الفتنة والزيغ، رؤوسهن كَأسْنِمَةِ البُخْتِ، فقد تعددت التسريحات وتنوعت التقليعات بما لا عَدَّ له ولا حَصْر …
أيرضى مُسْلِمٌ غَيور أن تُنْتَهَكَ حُرماتِ الله وأوامره؟ أيرضى أن تكون بِنْتَهُ حطباً لنار جهنم؟ إنَّ عاقلاً لا يرضى بهذا، إذاً أنقذوا أنفسكم وأهليكم من النار، من نارٍ لها سبعون ألف زِمامٍ، وكل زِمامٍ يجره سبعون ألف مَلَكْ، تتقد بالناس والحجارة ..
الحجاب سترٌ ووقاية:
يقول الله تعالى: ’’يا أيها النبي قُلْ لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنِيْنَ عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ وكان الله غفوراً رحيماً‘‘، يأمر الله النساء باشتمال الجلباب، وهو الملاءة أو الملحفة التي تستر جميع البدن حتى لا يؤذيهن أهل الريبة والفسوق..
لقد أراد الله عزوجل لنا مجتمعاً نظيفاً طاهراً، تحكمه القواعد السليمة، ولا تُسَيّرَهُ الغريزة الحيوانية، فأمر النساء بالحجاب وأمر كلاً من الرجال والنساء بِغَضِّ البصر، ’’قل للمؤمنين يغضُّوا من أبصارهم ويحفظوا فُرُوْجَهُم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون‘‘. أمر الله المؤمنين بِغَضِّ البصر عما لا يَحِلُّ لهم، ذلك أنَّ النظرة الخائنة سهمٌ من سهام إبليس، فالنظرة داعية إلى فساد القلب، والنظر بريد الزنا، قال عليه الصلاة والسلام: ’’كُتِبَ على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الأذن الاستماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجْلين الخُطى، والنَّفْسُ تَمَنَّى وتشتهي، والفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك أو يُكَذَّبَهُ‘‘ رواه مسلم.
ولذلك أمر الله عزوجل بعد ذلك بحفظ الفُرُوْج، وَحَذَّرَ من الغفلة، ’’إن الله خبير بما يصنعون‘‘، فهو الذي ’’يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور‘‘.
وقال تعالى: ’’وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فُرُوْجَهُنَّ‘‘، وكذلك المرأة ينبغي أنْ تَغُضَّ بصرها عن الرجال إذا خشيت أن يؤدِّي ذلك إلى إثارتها وفتنتها، ويحرم عليها النظر إلى موضع عورته، وهو ما بين السُّرَّة والركبة في كل حال، ثم بيًّن الله تعالى ما يجوز أن يَظهر من المرأة أمام الأجانب، والمراد بهم هنا غير المحارم: أي كل من يَحِلُّ لها الزواج بهم، فقال عزوجل: ’’ولا يُبْدِيْنَ زينتهن إلا ما ظهر منها‘‘، والنهي عن إبداء الزينة نهيٌ عن إبداء مواضعها من بابٍ أَوْلَى، وقوله: ’’إلا ما ظهر منها‘‘، قال بعض السلف: هو ظاهر الثياب، وعلى هذا فكل بدنها عورة بما في ذلك الوجه والكفان، وقال بعض السلف: ’’إلا ما ظهر منها‘‘ أي الوجه والكفان، لأن الحاجة داعية إلى ظهورها في الغالب، فلا يجب ستر الوجه عند هؤلاء في الأحوال العادية. ولكلٍّ أدلة أُخرى على ما ذهب إليه، إلا أنه لا يجوز النظر إلى وجه المرأة من غير المحارم لغير حاجة باتفاق العلماء، وذلك للأمر بِغَضِّ البصر، وقد اتفق الفقهاء على وجوب ستر الوجه عند خوف الفتنة والفساد، وعصرنا هذا عصر فتنة وفساد، فينبغي للمرأة المسلمة أن تستر وجهها احتياطا لدينها، ثم يقول الله تعالى: ’’وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ‘‘، والخمر: جمع خمار، والجيوب: فتحات الثياب من العنق، أُمِرْنَ بإسدال الخمار على الصدر والنحر حتى يُغَطِّيْنَهُ…
ثم نهى الله عزوجل عن إبداء الزينة الباطنة، وهي الرأس والشعر وأعلى الصدر والساق والعضد، إلا للزوج والمحارم، فقال : ’’ولا يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ إلا لبعولتهن‘‘، أي أزواجهن، ’’أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن‘‘، فكل هؤلاء محارم للمرأة أي لا يَحِلُّ لها الزواج منهم، فلا حَرَجَ بإبداء هذه المواضع أمامهم بشرط أمن الفتنة، ثم قال تعالى: ’’أو نسائهن‘‘، أي تظهر هذه الزينة أمام نساء المسلمات ونسائها الملازمات لها بالخدمة والصُحبة، ولا تظهر زينتها أمام المرأة الكافرة (على قول كثير من الفقهاء) لأنها لا تتورع عن أن تصفها لغير المسلمين (وقد تكونُ رجلاً متحولاً يزعم أنه أنثى) فالمرأة الكافرة بالنسبة للمرأة المسلمة كالرجل الأجنبي بخلاف المرأة المسلمة فإنها مَنْهِيَّة عن أن تصف المرأة لأجنبي عنها وهي تتورع عن ذلك …
وقال تعالى: ’’أو ما ملكت أيمانهن‘‘، أي تُبدي زينتها للكافرة إذا كانت أَمَةً لها، وقال تعالى: ’’أو التابعين غير أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرجال‘‘، أي الذين يَتَبِّعُونَ أهل البيت من الخدم والأجراء الذين لا هَمَّ لهم في النساء لِبَلَهٍ أو حماقة أو تَخَلُّفٍ لا يُفهم معه أحوال النساء، ’’أو الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء‘‘، يعني لصغرهم لا يلتفتون إلى مفاتن المرأة، أمَّا إذا قارب الحلم أو صار يفهم أحوال النساء فلا يمكّن من الدخول عليهن ولا من الاطلاع عليهن، ثم قال تعالى: ’’ولا يضربن بأرجُلهن ليعلم ما يُخْفِيْنَ من زِيْنَتَهُنَّ‘‘: لما أراد الله قطع دابر الفساد حَرَّمَ كل مقدماته ووسائله، فَحَرَّمَ الضرب بالأرجل لكي لا يُسمع صوت الخلخال لأنه يُحرك الشهوة ويثير النفوس ..
وخُتمت الآية بقوله تعالى: ’’وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون‘‘، فكلنا نحتاج للتوبة.
شروط الحجاب الساتر:
وبعد أن عرفنا وجوب ستر عورة المرأة، ووجوب الحجاب، فينبغي أنْ نعلم أنَّ للحجاب الساتر للعورة شروطاً غَفِلَتْ عنها كثيرٌ من المسلمات.
أول هذه الشروط: ألَّا يكون الحجاب زينةً في نفسه، أو مُبهرجاً ذا ألوان جذابة تلفت الأنظار، لأنه يخالف قوله تعالى: ’’ولا يُبْدِيْنَ زِيْنَتَهُنَّ‘‘.
الشرط الثاني: أنْ يكون اللباس سميكاً لا يَشَفّ، وإلا كانت المرأة من أهل النار الكاسيات العاريات.
الشرط الثالث: أنْ لا يكون اللباس ضيقاً يُجَسِّدُ العورة ويُبرز مفاتن الجسد.
الشرط الرابع : ألَّا يكون مُطيباً مُبخراً مُعطراً لقوله عليه الصلاة والسلام: ’’أَيُّمَا إمرأة استعطرت فَمَرَّت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية‘‘، صحيح النسائي.
الشرط الخامس: ألَّا يشبه لباس الرجال، قال ابن عباس: ’’لعن رسول الله المتشبِّهات من النساء بالرجال والمتشبِّهين من الرجال بالنساء‘‘ رواه البخاري.
الشرط السادس: أنْ لا يشبه لباس الكافرات الذي صار شعارا لهن أو علما عليهن، لقوله عليه الصلاة والسلام: ’’من تشبَّه بقومٍ فهو منهم‘‘.
الشرط السابع: أن لا يكون لباس شهرة، وهو الثوب النفيس يقصد به: الشهرة والافتخار، لقوله عليه الصلاة والسلام: ’’من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه ناراً‘‘، صحيح ابن ماجه.
تنبيه:
فإذا عرفت هذه الشروط فاعلم أنه لا يجوز للمرأة أو الفتاة أن تقوم ولو في بيتها وأمام محارمها بالثوب الضيق أو الرقيق، فكل هذا منكر، ومخالفٌ لشرع الله تعالى، وأعظم منه إثماً الخروج بهذا اللباس بين الناس …
ضوابط العلاقات الأُسَرِيَّة:
إن الإسلام لمَّا أراد أن يُنظِّم حياة الأُسرة ويُبعدها عن مهاوي الرذيلة والفساد وَضَعَ ضوابط أخرى لهذه الحياة :
1-مِنْ هذه الضوابط تحريم لمس المرأة الأجنبية، قال عليه الصلاة والسلام: ’’لَأنْ يُطْعَنَ أحدكم بِمخْيَط من حديد خيرٌ له من أن يَمُسَّ امرأة لا تَحِلُّ له‘‘، رواه البيهقي والطبراني. وبالتالي تُحرم مصافحة المرأة من غير ذوات المحارم، ويُحرم ذهابها إلى صالونات الرجال لتزيين شعرها ..
2-وِمِنْ هذه الضوابط تحريم الخلوة بالأجنبيات مُطلقاً، قال عليه الصلاة والسلام: ’’لا يَخْلُوَنَّ أحدكم بإمرأة إلا مع ذات محرم‘‘، رواه البخاري ومسلم. وقال كذلك: ’’لا يَخْلُوَنَّ رجل بإمرأة إلا كان الشيطان ثالثهما‘‘، وسَدَاً لذريعة الفساد فإن الشارع قد حَرَّمَ الخلوة بأقارب الزوج، قال عليه الصلاة والسلام: ’’إياكم والدخول على النساء قال رجل من الأنصار: أفرأيت الحَمُو؟، قال: الحَمُو الموت‘‘ والحمو مصطلح يشمل في اللغة أقارب الزوج كأب الزوج أو ابنه وأخيه وعمه، ويستثنى من الحديث أب الزوج وابنه لأنهما من المحارم بِنَصِّ الآية. وبناء على الحديث تُحرم الخلوة بأخ الزوج أو عمه أو زوج الأخت ونحوهم ..
3ومِنْ هذه الضوابط تحريم التكسّر في الكلام واللين مما يثير النفوس، قال تعالى: ’’يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً، وقرن في بيوتكن ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأَطِعْنَ الله ورسوله إنما يريد الله لِيُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهِّركم تطهيرا‘‘، فإذا كانت هذه التوجيهات في حق أزواج النبي الطاهرات فهي في حق غيرهن أولى …
القوامة التزامٌ ومسؤولية وعِشْرةٌ بالمعروف:
لقد نظَّم الإسلام العلاقات الأسرية أجمل تنظيم، وبَيَّنَها أكمل بيان، ليبني مجتمعاً مسلماً طاهراً مستقيماً يعرف كل فرد فيه واجبه كما يعرف حقه …
وأول ما تبدأ الأسرة بالزوجين، وقد نظَّم الإسلام العلاقة بين الزوجين، وأعطى القوامة للرجل، قال تعالى: ’’الرجال قوَّامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم‘‘، وقد بَيَّنَ الله عزوجل أن القوامة للرجال ترجع لأمرين وهبي وكسبي، أما الوهبي فهو: أنَّ الله أعطاهم رجحان العقل على العاطفة وأعطاهم حُسْنَ التدبير، ومزيدا من القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خُصُّوا بالنبوة والولاية والجهاد. وأما الأمر الكسبي فهو: أنهم يُكَلَّفُونَ بالمَهْرِ والنفقة على الأهل والعيال. وبَيَّنَ الله عزوجل أنَّ النساء على صنفين صالحات وعاصيات: ’’فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله‘‘، فهؤلاء مطيعات قائمات بحق الأزواج، يحفظن الزوج في غيبته وماله وولده وفي أنفسهن، والصنف الآخر: ’’واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيرا‘‘، فهؤلاء عاصيات بين الشرع ووسائل تأديبهن بالتدريج، فأول ذلك الموعظة الحسنة، فإن لم تنفع فالهجر في المبيت (ولكن في البيت)، فإن لم ينفع فالضرب وهو الضرب غير المبرح، كما بَيَّنَهُ النبي عليه الصلاة والسلام أي الذي لا يؤذي ولا يترك أثرا. وقد بَيَّنَ النبي عليه الصلاة والسلام حقوق كل من الطرفين، فقال: ’’ألا إنَّ لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فحقكم عليهن ألا يوطئن فُرُشَكم من تكرهون ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تُحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن‘‘، أخرجه الترمذي، وقد سُئِل النبي عليه الصلاة والسلام: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: ’’أن تُطعمها إذا طعمت وتَكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت ولا تضرب الوجه ولا تُقَبِّح ولا تهجر إلا في البيت‘‘، سنن أبي داود.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء أول الأمر، فاجترأت النساء على الأزواج فرخَّصَ النبي في ضَرْبِهن، فاشتكت كثير من النساء من أزواجهن، فقال عليه الصلاة والسلام: ’’ليس أولئك بِخِيارِكُم‘‘،سنن أبي داود. يعني أن خِيار الأزواج لا يَضْرِبون، بل لا يحتاجون للضرب، وفي المقابل فقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام الوصية بالنساء من وصاياه الجامعة في حجة الوداع، فقال: ’’واستوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خُلِقَت من ضلع وإنَّ أَعوجَ ما في الضلع أعلاه فإن ذَهَبْتَ تُقَيِّمَهُ كَسَرْتَهُ وإن تَرَكْتَهُ لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً‘‘، رواه البخاري. فقد بَيَّنَ في هذا الحديث أنه لا بُدَّ أن يكون عند المرأة شيء من العِوَجْ، وعلاج هذا الصبر وليس الكسر، فقد ورد في بعض الروايات وكَسْرِها طلاقها … ومن كان عنده أكثر من زوجة يجب عليه أن يعدل بينهن، يقول عليه الصلاة والسلام: ’’من كانت له إمرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط‘‘، صحيح ابن ماجه، أي مائل، والعدل المطلوب هو العدل في النفقة والكسوة والمبيت ..
بر الوالدين:
وإذا ما قَيَّضَ الله لهذه الأسرة الاستمرار كان الأولاد، ووجدت علاقة بين الأبناء والآباء، وقد نظم الشارع هذه العلاقة، فنظم علاقة الأولاد مع الآباء، وفرض على الأبناء طاعة الوالدين والإحسان إليهما، وجعل عقوقهما من أكبر الكبائر، قال تعالى: ’’وقضى ربك ألَّا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يَبْلُغَنَّ عندك الكِبَر أحدهما أو كلاهما فلا تَقُلْ لهما أُفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا‘‘، وقال تعالى: ’’ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أَنِ اشكر لي ولوالديك إلي المصير. وإنْ جاهداك على أن تُشْرِكَ بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليَّ ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون‘‘، كَلَّفَ الولد بطاعة أبويه المشركين في غير الشرك، وبالإحسان في صحبتهما، فكيف بالأبوين المسلمين؟؟؟
قال عليه الصلاة والسلام: ’’رَغِمَ أَنْفُ ثم رَغِمَ أَنْفُ ثم رَغِمَ أَنْفُ ، قيل: من؟ يا رسول الله، قال: من أدرك أبويه عند الكِبَر أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة‘‘، رواه مسلم. فالإحسان إلى الوالدين سبب لدخول الجنة، ولما سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم ما حق الوالدين على ولدهما؟ قال : ’’هما جنَّتك ونارك‘‘، ضعيف ابن ماجه، يعني إما أن تدخل الجنة بطاعتهما وإما أن تدخل النار بمعصيتهما …
حقوق الأبناء والبنات:
وقد نظَّم الشارع علاقة الآباء المربين بالأبناء والبنات، وبَيَّنَ أنَّ للأبناء والبنات حقوقاً تجب على الآباء، فَبَيَّنَ أولاً أن الرجل والمرأة كلٌ منهما مسؤول عن أبنائه: ’’كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته فالإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعيةٌ وهي مسؤولةٌ عن رعيتها والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته‘‘، رواه البخاري، وقد أوجب الله عزوجل على الآباء تربية الأبناء وإرشادهم : ’’يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وَقُودها الناس والحجارة عليها ملائكة غِلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤْمَرُون‘‘، فيجب على الأب أنْ يُرَبِّي أولاده ويُحْسِنَ تربيتهم، قال عليه الصلاة والسلام: ’’أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم‘‘، ابن ماجه، وقال عليه الصلاة والسلام : ’’ما نَحَلَ والدٌ وَلَدَهُ نُحْلًا (أي ما أعطى) أفضل من أدب حسن‘‘، سنن الترمذي.
ويجب لذلك العدل في التربية والمعاملة بين الأولاد ذكوراً وإناثاً، وقد حَضَّ النبي عليه الصلاة والسلام على الإحسان إلى البنات لأن الكثيرين يُضَيِّعُونَ حقوقهن ويُؤْثِرُونَ الذكور عليهن، قال عليه الصلاة والسلام: ’’من كانت له أنثى فلم يَئِدْهَا ولم يُهِنْهَا ولم يُؤْثِرْ ولده عليها – قال: يعني الذكور- أدخله الله الجنة‘‘، سنن أبي داود، وقال كذلك: ’’من عَالَ جاريتين – أي ابنتين أو أختين، كما جاء في بعض الروايات – حتى تَبْلُغَا جاء يوم القيامة أنا وهو وضَمَّ أصابعه‘‘، رواه مسلم.
وكما يجب على الأب أن يُرَبِّي أبناءه، يجب عليه أن يسعى في طلب الرزق وأن يُنْفِقَ عليهم، قال عليه الصلاة والسلام : ’’كفى بالمرء إثماً أن يُضَيِّعَ من يَقُوتُ‘‘، سنن أبي داود. وقال عليه الصلاة والسلام: ’’أَفضلُ دينارٍ يُنفقه الرجل دينارٍ يُنفقه على عياله (والمراد النفقة بالمعروف دون إسراف ولا تقتير) ودينارٍ يُنفقه الرجل على دابته في سبيل الله ودينارٍ يُنفقه على أصحابه في سبيل الله‘‘، رواه مسلم. وكما يجب على الأب أنْ يُنْفِقَ على أبنائه، فينبغي عليه أن يَعْدُلَ بينهم في العَطِيَّة ذكوراً وإناثاً، ولا يُفَرِّق بينهم فَيُثِير الضغائن والأحقاد فإنَّ ذلك ظلم، فقد روى النعمان بن بشير أنَّ أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ’’إني نحلت (أعطيت) ابني هذا غلاما كان لي فقال: يا بشير ألك وَلَدٌ سوى هذا؟ قال نعم قال: أَكُلُّهُمْ وَهَبْتَ له مثل هذا؟ قال لا قال: فلا تُشهدني إذا فإني لا أشهد على جَوْر‘‘، رواه مسلم.
حقوق ذوي الأرحام:
ثم تتسع دائرة العلاقات الأُسرية لتشمل الإخوة والأخوات، والأعمام والعمّات، والأخوال والخالات، ومن يلونهم، وكل هؤلاء من الأرحام الذين أوصى النبي عليه الصلاة والسلام بِصِلَتِهِمْ والإحسان إليهم والصَّفح عنهم والصبر على أذاهم، قال عليه الصلاة والسلام : ’’من سَرَّهُ أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه‘‘، رواه البخاري، وقال: ’’الرحم مُعلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله‘‘، رواه مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: ’’إقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: فهل عسيتم إن توليتم أن تُفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم‘‘.
إلا أن هؤلاء الأرحام على نوعين: فمنهم المحارم، وغير المحارم.
أما المحارم وهم: الذين لا يجوز التزاوج بينهم، فهؤلاء يجوز أن تظهر المرأة أمامهم بظاهر زينتها، وأن تسلم عليهم ونحو ذلك.
وأما غير المحارم: فهؤلاء وإن كانوا من الأرحام إلَّا أَّنَّ للعلاقة معهم قيوداً حَدَّهَا الشرع فلا ينبغي تجاوزها، وهؤلاء هم ابن العم وابن العمة، وابن الخال وابن الخالة، وأخو الزوج وزوجة الأخ، وقد كنا أشرنا إلى هذا الموضوع سابقا، فهؤلاء لا يجوز للمرأة أنْ تُظْهِرَ شيئا من بدنها أمامهم، ولا أنْ تصافحهم، ولا أنْ تخلو بواحد منهم، يقول عليه الصلاة والسلام: ’’لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٍ بإمرأة إلا مع ذي محرم‘‘، رواه البخاري، وهؤلاء ليسوا محارم بالنسبة لها ..
وليس في هذا تَعَصُّب ولا تَزَمُّت، وإنما هو شرع الله تعالى وحدوده: ’’ومَنْ يَتَعَدَّ حدود الله فقد ظلم نفسه‘‘ وليس في هذا انتقاص لأحد الطرفين، بل فيه مزيدُ تكريمٍ للمرأة، وفيه مزيدُ حرصٍ على أخلاق الرجال … وتبقى علاقة الأرحام ممكنة مع ذلك، فلا حَرَجَ من إلقاء السلام، والسؤال عن الأحوال.
ويمكن أن يضم غير المحارم من الأرحام مجلس واحد بشروط:
أولها: التزام المرأة بالحجاب الشرعي الكامل.
وثانيها: انتفاء الخلوة وذلك بوجود بعض المحارم مع المرأة، وإذا جاءها أحد هؤلاء وليس معها في البيت أحد فلا يجوز أن يدخل بل ينصرف حتى يحضر أحد محارمها.
وثالثها: أنْ لا يمسّها أحد هؤلاء بمصافحة ولا غيرها، يقول عليه الصلاة والسلام: ’’ ’’لَأنْ يُطْعَنَ أحدكم بِمخْيَط من حديد خيرٌ له من أن يَمُسَّ امرأة لا تَحِلُّ له ‘‘، رواه البيهقي والطبراني، وهؤلاء كما قلنا غير محارم بالنسبة لها.
ورابعها: أن لا يكون في ذلك المجلس ما يُثير فتنة أو يُحَرِّكُ شهوة .. يقول الله تعالى: ’’يا نساء النبي لَسْتُنَّ كأحدٍ من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقُلْنَ قولاً معروفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا‘‘، وهذا الخطاب يتوجه إلى كل النساء من باب الأَوْلَى.
خاتمةٌ في واجب الإصلاح:
إنَّ من المعتاد في كثير من الأُسر أن ينشأ خلافٌ أو نزاع، فقد تختلف وجهات النظر وتضطرب الآراء ويقع الخصام، والواجب هنا أن يتدخل الأقارب وأهل الفضل لحل النزاع بما يرضي الله ورسوله. وللأسف تجد الكثيرين من الناس بدلاً من أن يُصلحوا يَزيدون النار اشتعالاً، فتراهم يُريدون أن يَنصروا قريبهم أو ابنهم على زوجته بالحق أو بالباطل، وأهل الزوجة كذلك، ويُحَرِّضُ كل منهم أحد الزوجين على الآخر، وهذا ليس من الدين في شيء، بل إنَّ من يخالف هدي رسول الله عليه الصلاة والسلام فليس على هدي المسلمين، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام : ’’لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ‘‘، صحيح أبي داود، ومعنى خَبَّبَ أي أفسد، فهذا الذي يُفْسِدُ المرأة على زوجها ففعله ليس من أفعال المسلمين، وكذا مَنْ يُفْسِدُ العبد ومثله الخادم والأجير والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
اسطنبول 11 ربيع الأول 1445هـ – 26 أيلول 2023م.
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_دينية_أحمد_حَوَّى_مُذَكِّرَة_في_الحجاب_والعلاقات الأُسَرِيَّة_وضوابطها