مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_سياسية_محمد_فاروق_الإمام_الصراع_الخفي_بين_أركانِ_الحُكْمِ_الطائفي_في_سورية
في عام 1957م تزوَّج ضابط مغمور من اللاذقية يُدْعَى حافظ الأسد فتاة من الساحل تُدْعَى أنيسة مخلوف، وفي حينها، لم تكن الطائفة العَلَوِيَّة التي ينتميان إليها تتمتع بأي نفوذ في سورية ذات الأغلبية السُنّية (العلويون 8% السُنِّيَّون 80%) لكن عائلة مخلوف كانت ضمن العائلات القليلة الثرية بين أبناء الطائفة العَلَوِيَّة.
بدا الأمر مناسبا: طموح الأسد دفعه ليدخل في تحالف مع قوة آل مخلوف، وبالفعل، حين وصل الأسد إلى السلطة بانقلاب غَادْر على رفاقه في عام 1970م، كانت العائلتان تديران البلاد كشركة عائلية، جذبت الطائفة العَلَوِيَّة من الهامش إلى مركز السلطة في سورية.
نَفَقَ حافظ الأسد، وورثه ابنه بشار، لكن دعم عائلة مخلوف المالي لسلطة الأسد لم يتوقف، خصوصا مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011م، والتي بدا لوهلة أنها على وشك الإطاحة بنظام بشار من السلطة.
لقد كانت عائلة مخلوف أكبر من عائلة الأسد، وهي جزء من قبيلة الحدادين القوية. وخلال سنوات من الحرب التي شَنَّها المجرم بشار الأسد على شعبه، عمل رامي مخلوف على ضمان ولاء القبيلة، وشَكَّلَ في عام 2012م جمعية البستان، وهي منظمة خيرية ذات جناح مُسَلَّح، لحماية أقربائه ورعايتهم، وإمدادهم بما يحتاجونه من المواد التموينية والرعاية الصحية والوظائف.
لكن نفوذ عائلة مخلوف السياسي بدأ يتراجع في العام 2016م، مع نفوق أنيسة مخلوف، والدة مجرم الحرب بشار الأسد، وبدا أنَّ الأمور أخذت تتحرك ضد عشيرة مخلوف التي دامت نحو نصف قرن من الزمان، لتتداعى تلك الشراكة.
وفي ديسمبر / كانون الأول 2019م، بدأت حكومة النظام المجرم الاستيلاء على أصول رامي مخلوف، مشيرة إلى ’’مخالفات جمركية‘‘. لتصل الأمور ذروتها عندما داهمت أجهزة الأمن مقرات سيريتل، أكبر مزود لشبكات الهاتف المحمول في سورية، والمملوكة لمخلوف، كما ألقت أجهزة الأمن القبض على كبار المديرين، وطلبت ما لا يقل عن 170 مليون دولار في رسوم الترخيص، فيما يقول رأس الفساد بشار الأسد إنه ’’جزء من حملة لمكافحة الفساد‘‘.
وظهر بعدها رامي مخلوف في مقاطع فيديو تداولتها وسائل التواصل يتهم فيها ابن عمته بشار بمصادرة ممتلكاته، وشاكيا مِنْ أنَّ قوات الأمن – التي كان يرعاها منذ فترة طويلة – يعاملون موظفيه بطريقة ’’غير إنسانية‘‘ و’’يهاجمون حُريات الناس‘‘.
وظهرت على الساحة أسماء الأخرس زوجة المجرم بشار الأسد، التي باتت سببا في تصدع علاقة بشار بأخواله العلويين الذين يعتبرون مخلوف حاميهم، والذين يشعرون بالتهديد، وينظرون للتطورات بغضب، ويُهددون النظام بزعزعة الاستقرار إذا تَعَرَّضَ رامي لمطاردات أمنية، ويقولون إن الأسد يتخلى عن طائفته لحساب التجار السُنّة القريبين من زوجته (السُنِّيَّة أيضا) أسماء الأسد.
ويُعتبر هؤلاء أنهم فقدوا أحباءهم في معركة طويلة خاضوها من أجل مجرم الحرب بشار الأسد، لذا لا يُمكنهم التسليم بقبول وضع غنائم الحرب للسُنّة، الذين كانوا وراء الثورة التي انتفضت على مجرم الحرب بشار الأسد.
وكان في الظروف العادية يستطيع النظام السوري اعتقال أو ’’قتل‘‘ من يريد من معارضيه لكن عشيرة مخلوف تُمثل الاستثناء، فأفرادها ليسوا أقارب مجرم الحرب بشار الأسد وحسب، بل هم عائلة لها تحالفات أقوى من عائلة الأسد داخل الطائفة العَلَوِيَّة، ورامي مخلوف أحد أهم الأسماء على قائمة أصدقاء إيران في سورية.
إيران التي تدعم النظام، تتطلع بقلق، إلى رَجُلِهَا في نظام الحُكْمِ رامي مخلوف الذي يعرف كل أعمدة الحُكْمِ في سورية أنه ’’كان دائما على مقربة من الإيرانيين‘‘.
لقد كان ’’وضع كل البيض في السلة الإيرانية‘‘ لم يخدم مخلوف كثيرا، فإيران نفسها لديها مشاكل أكبر، تتمثل في اغتيال مجرم الحرب قاسم سليماني الذي كان ذراعها الطويلة في العمليات خارج حدودها، وتزايد المشاكل المالية، جعلا من الصعب عليها الحفاظ على موقعها في سورية، بينما تكثف الدولة العِبْرِيَّة ضرباتها الجوية ضد القواعد الإيرانية في البلاد، وقد بدأت في الإقلال من تواجدها في سورية حفاظاً على مستشاريها العسكريين الذين باتوا صيداً سهلاً للمُسَيّرَات والطيران الصهيوني.
روسيا التي تدعم مجرم الحرب بشار الأسد باتت أكثر سعادة برحيل إيران من سورية، حيث تريد أن تستفيد شركاتها وحدها من عقود إعادة الإعمار في سورية إذا ما تمت.
بهذا الاتجاه، فإن روسيا لم تتدخل لتجنيب الإيرانيين من الضربات الصهيونية؛ ولربما سَهَّلَت الضربات الصهيونية على المواقع الإيرانية، وكان أحد المؤشرات أن منظومة الدفاع الجوي اس 300 لم تتصدَ للصواريخ التي كانت تقذفها الطائرات الصهيونية.
بجانب ذلك، حَرّكت روسيا قواتها إلى المناطق المهمة التي سيطرت عليها القوات المدعومة إيرانيا، واستبعدتها من المفاوضات بشأن شمال سورية، حيث تُواصل فصائل الجيش الحر المدعومة من تركيا السيطرة على الأراضي من ناحية، ومن ناحية أخرى يواصل الأكراد محاولات تأسيس إدارة ذاتية لهم في الأراضي التي يسيطرون عليها بدعم من التحالف الأمريكي الأوروبي.
وعلى عكس العلويين وإيران فإن روسيا الحليف الآخر لمجرم الحرب بشار الأسد لن تحزن على تراجع نفوذ مخلوف بل ترى فيه فائدة سياسية واقتصادية فمن جهة ستنفرد موسكو بالنفوذ السياسي ومن جهة ثانية تنفرد الشركات الروسية بعقود إعادة إعمار سورية بعد الحرب وتستبعد منها الشركات الإيرانية.
كذلك تعمل روسيا على وضع جنودها في مواقع معينة مهمة لإيران واستبعاد هذه المناطق من طاولة المفاوضات.
وكل هذا بالتزامن مع ورطة نقص الأموال التي تضخها إيران في عملياتها العسكرية منذ مقتل قاسم سليماني، وهذا يعني أن إيران وفريقها مضطر للقبول باستمرار بشار الأسد في حكم سورية.
لكن حتى موسكو لديها أسباب للغضب من مجرم الحرب بشار الأسد، فبينما تعمل روسيا على دفع النظام السوري للتقارب مع تركيا، حتى تبدأ موسكو بإقناع الغرب بتمويل عملية إعادة إعمار سورية، فإن النظام السوري ما زال يرفض أي تقارب مع تركيا قبل سحب قواتها من الأراضي السورية، وهذا جعل بعض المحللين يصف مجرم الحرب بشار الأسد بالعميل غير المطيع.
بعض التقارير تشير إلى أن الرئيس الروسي بوتين ربما يفضل لو كان يتعامل مع شخص أخر غير بشار الأسد، لكن لا يوجد بديل يُطأطئ الرأس مثله.
ولم تكن زوجة المجرم بشار الأسد أسماء الأخرس بعيدة عن هذه الأجواء بل كانت منخرطة بها، ولكنها آثرت العمل في المجال المادي والاقتصادي في العلن تَحَتَ غطاء مكافحة الفساد، وفي الخفاء تضع يدها على أجهزة الأمن والقيادات الفاعلة في النظام، فعملت بخبث ومكر على قلب النظام رأساً على عقب، وبدلت الكثير من الرموز وأطاحت بالعديد من الرؤوس الكبيرة، حتى قيل أن ذو الهمة شاليش قد مات كمداً بعد أن جَرَّدَتْهُ أسماء الأخرس من ملياراته التي جمعها بطرق غير شرعية، وكان من المعروف أن ذو الهمة لديه بَنْكَهُ الخاص، حيث كان يرفض إيداع المليارات التي جمعها بطرق غير شرعية في البنوك الرسمية، وكان بدلاً من ذلك يضعها في عمارات كبيرة خاصة به، وحتى كبار رجال الأعمال والرأسماليين السوريين غير العلويين القريبين من عائلة الأسد في سورية، لم ينجوا من غزوات أسماء الأخرس، فلم يبقَ حوت كبير إلا وجَرَّدَتْهُ من أمواله وممتلكاته، بمن فيهم المقربون من شقيق المجرم الحاكم ماهر الأسد، وكان لا يَمُرُّ أسبوع إلا ونسمع عن هروب أحد الحيتان الكبار أو الاستيلاء على ممتلكاته، لقد أصبح الاقتصاد والمال كله في أيدي زوجة المجرم بشار الأسد، وحتى أن السوريين لا يمكن أن يحصلوا على أي سلعة أساسية كالزيت والسكر والخبز والبنزين والمازوت إلا عن طريق الشركات التابعة لأسماء الأخرس.
لم يَعُدْ أحد قوياً في سورية سوى أسماء الأخرس، وقد أصبح حتى كبار ضباط الجيش والأمن مجرد طراطير، فهي اليوم قادرة على تركيع أكبر ضابط، بعد أن باتت تهز الجيش بيمينها وقوى الأمن بيسارها، حتى أصبح الجميع رهن إشارة من بنانها، فقد أصبح الجميع في قبضتها، ولا شك أنهم اتعظوا بعد أن شاهدوا ما حصل لرامي مخلوف وهو من عظام رقبة العائلة الحاكمة، فما بالك بالعائلات الأقل قُرْباً من عائلة المجرم بشار الأسد.
لقد هزّت السيدة أسماء تركيبة النظام المالية والاقتصادية والعسكرية والأمنية بشكل غير مسبوق، وقلبته رأساً على عَقِبْ، وبدلت الكثير من الرموز وأطاحت العديد من الرؤوس الكبيرة والحامية، ولم تَعُدْ كلمة ’’العَلَوِيِّيْنَ‘‘ هي العليا في قصر المهاجرين، وأخبارها ونشاطاتها وفعالياتها تتقدم على الجميع، وأي قرار يصدر ويتخذ، حتى على مستوى تعيين كبار الجنرالات الأمنيين، أو عزلهم، في حاجة لمراجعة وانتظار ورأي من ’’الحاكم الخفي‘‘.
إن التغيير الحقيقي الذي يحصل حالياً في بيت الحُكْمِ في دمشق منذ سنوات بدون ضجة تقف وراءه أسماء الأخرس، وهو بمثابة أول انقلاب حقيقي على النظام منذ (الحركة التصحيحية) التي قادها مؤسس النظام النافق حافظ الأسد عام ألف وتسعمائة وسبعين وأنهت موجة الانقلابات في سورية.
ولعل أكبر المتضررين والمرعوبين اليوم من انقلاب القصر الناعم الذي تقوده أسماء الأخرس هم العَلَوِيُّوْنَ تحديداً، الذين بدأوا يتلمسون على رؤوسهم وخاصة كبار جنرالات الأمن المرعبين الذين باتوا يتوددون لوجهاء العائلات الجديدة الصاعدة، ويطلبون ودّهم ووساطتهم، وينتظرون دعمهم ورضاهم و’’تزكيتهم‘‘ عند ’’الحاكم الخفي‘‘، كما ينتظرون، بنفس القدر، ما سُتغدقه عليهم من ’’عطاءات‘‘ و’’فتات‘‘ بعدما آلت ثروة آل الأسد ومخلوف وشاليش، والتي جمعوها على مدى خمسين عاماً، إليها وباتت في جعبتها، وقد تلاشت قبضتهم العسكرية والأمنية والمالية والاقتصادية على البلاد بعد أن كدّست أسماء الأخرس كل السلطات، كما الثروات، في يديها وأصبحت الحاكمة بأمرها في بلاد الشام، وجعلت كبار ضباطهم، من أصحاب الشوارب والهيلمان، يقفون بالطابور لمقابلتها كتلاميذ صغار، ويلوذًون بالصمت خوفاً من سياطها القاتلة وسخطها على من ينبس بحرف ضدها.
وهنا أقتبس فقرة من مقال لفيصل القاسم الذي يقول: لقد كان أول ضحايا الصعود الصاروخي لأسماء الأخرس السيد رامي مخلوف الذي كان مجرد ذكر اسمه في سورية كافياً ليجعل الجميع يقفون باستعداد على رِجْلٍ واحدة، فهو سيد بيت المال، والواجهة الاقتصادية والمالية الأولى للنظام، والكل يأتمر بأوامره ويَخِرُّ ساجداً أمام مشاريعه، ناهيك عن أن السيد مخلوف كان بالإضافة إلى سطوته المالية والاقتصادية في الشارع السوري، كان يحظى بشعبية منقطعة النظير في أوساط الغالبية العظمى في الساحل السوري، لأنه كان يُقدِّمُ دعماً كبيراً للمحتاجين الذين يُشَكِّلُوْنَ الحاضنة الشعبية للنظام. لكن في ليلة ليلاء، انقضّت السيدة أسماء على رامي مخلوف وكل شركاته، وجَرَّدَتْهُ من معظم أملاكه، ليتحول المسكين بين ليلة وضحاها إلى واعظ على باب الله، لا شُغل له إلا الدروشة الدينية ونشر الفيديوهات الوعظية الإرشادية التي أثارت سخرية السوريين وشماتتهم في آن معاً.
ثم يختم فيصل القاسم بالقول: ثم توالت غزوات أسماء الأخرس على مرابع الحيتان العَلَوِيِّيْنَ الكبار من ضباط ووجهاء وأصحاب المليارات، فبدأوا يتساقطون الواحد تلو الآخر، بعد أن شاهدوا أكبر رأس مالي في سورية وقد تحول إلى شحاذ؛ فجأة اختفى آل شاليش أقرباء مجرم الحرب بشار الأسد عن المشهد، وعندما تُوفي أشهر مرافقيه وهو ذو الهمة شاليش، لم تذكر عائلته في ورقة النعوة اسم المجرم بشار الأسد، وقد كان ذلك مؤشراً على الشرخ الذي بدأ يحصل بين عائلة الأسد وبقية أقاربه من العائلات التي كانت تحكم قبضتها على كل المجالات في سورية.
المراجع
– القدس العربي – 9/2/2024م.
– حقائق – 18/5/2020م.
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_سياسية_محمد_فاروق_الإمام_الصراع_الخفي_بين_أركانِ_الحُكْمِ_الطائفي_في_سورية