مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_سياسية_محمد_فاروق_الإمام_وَقُهِرَ_الجيش_الذي_لا_يُقْهَر
لقد أصابت عملية ’’طوفان الأقصى‘‘ أسطورة الكيان الصهيوني الأمنية والعسكرية والاستخبارية بالجنون، وفضحت هشاشة التحصينات والجدران التي أنشأتها لحماية نفسها وعزلها عن ’’الآخر‘‘ الفلسطيني المُحَاصَرْ.
وثمَّة فرضية أساسية لا تزال تتبناها دولة الاحتلال، على الرغم من ثبوت إخفاقها المتكرر، وهي أنه في الإمكان الاستمرار في احتلال الأرض الفلسطينية من دون دفع الثمن وإجبار الشعب الفلسطيني على القبول بهذا الواقع.
إن الحالة الهمجية والغرائزية المتخلفة التي تسود الكيان الصهيوني، وارتكاب المزيد من العدوان والمجازر بحق الفلسطينيين، لن تُخضع الشعب الفلسطيني في غَزَّةَ أو في أماكن تواجده الأخرى، ولن تكسر إرادته، وسيبقى يكافح من أجل نَيْلِ حريته من الاحتلال، حتى لو نجحت الدولة العِبْرِيَّة في إسقاط حُكْمِ حماس في غَزَّةَ، وهو أمر مستبعد وأقرب إلى المستحيل.
لقد شَنَّت حركة المقاومة الإسلامية ’’حماس‘‘ صباح السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023م هجوماً مباغتاً؛ استهدف مواقع للجيش الصهيوني في غلاف قطاع غَزَّةَ، وتمكنت من السيطرة على قاعدةٍ عسكرية كبيرة وعددٍ من المواقع ونقاط المراقبة الصهيونية المنتشرة على حدود القطاع، كما سيطرت وحدات كوماندوس تابعة للحركة على نحو 20 مستوطنة صهيونية داخل ما يسمى ’’الخط الأخضر‘‘، وأسفرت هذه العملية، غير المسبوقة وفق المعطيات التي أعلنها الجيش الصهيوني حتى الآن، عن مقتل أكثر من 1200 عسكري ومستوطن صهيوني، وإصابة نحو 3000 آخرين بجروح مختلفة؛ بينهم العديد من كبار الضباط، كما أَسَرَتْ حماس وفصائل أخرى أكثر من 150 من مختلف الرُتَبْ العسكرية.
لقد جاءت العملية التي أطلقت عليها حماس اسم ’’طوفان الأقصى‘‘ على خلفية الاعتداءات المستمرة التي تقوم بها حكومة اليمين المتطرف والأكثر تطرفاً في تاريخ دولة الاحتلال؛ والتي تضم عُتاة المستوطنين، ضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، مستبيحةً أراضيهم؛ تمهيداً لمصادرتها وتهويدها، إضافة إلى اعتداءات المستوطنين المتكررة على المسجد الأقصى بحماية الجيش وأجهزة الأمن لدولة الاحتلال، كما حشدت حكومة الاحتلال الصهيونية خلال الأسابيع الماضية نحو 30 كتيبة من قوات الجيش في الضفة الغربية المحتلة، لردع أي رد فعل فلسطيني على ممارسات المستوطنين، وتمهيداً لاقتحام المخيمات والبلدات والمدن الفلسطينية التي تشهد عمليات مقاومة ضد قوات الاحتلال والمستوطنين.
أما في قطاع غَزَّةَ، فتستمر دولة الاحتلال في حصاره منذ عام 2006م، وتُقلّص حقوق الأسرى الفلسطينيين؛ وتزيد سوء معاملتهم، وترفض عقد اتفاق لتبادل الأسرى، مُستغلةً ضعف الموقف العربي واستعداد دول عربية لتطبيع العلاقات معها بِمَعْزِلٍ عن الحقوق الفلسطينية، وبعيداً عن صيغة الأرض مقابل السلام.
لقد حظيت عملية ’’طوفان الأقصى‘‘ بأهمية استراتيجية كبرى، نظراً إلى أنها تؤسس لتغيير الواقع الذي حاولت الدولة العِبْرِيَّة تكريسه في قطاع غَزَّةَ منذ انسحابها الأحادي الجانب منه في عام 2005م، كما أَدَّت هذه العملية المباغتة إلى انهيار الاستراتيجية الصهيونية في التعامل مع غَزَّةَ وحُكُمْ حركة حماس فيها، فضلا عن كشف الإخفاق الذريع لمختلف مكوّنات المنظومة العسكرية والأمنية، التي استندت الدولة العِبْرِيَّة إليها في تنفيذ استراتيجيتها؛ مما أَدَّى إلى تكبّدها خسائر بشرية جسيمة بلغت ضعفي مجمل خسائرها في حرب عام 1967م، سقط غالبيتهم في اليوم الأول من العملية، كما فاق إخفاق المنظومة العسكرية والأمنية الصهيونية إخفاقها في حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973م.
وسيتمخض عن ذلك، مهما كانت نتيجة الحرب على غَزَّةَ، تداعيات كبيرة داخل أجهزة الدولة وفي المجتمع الصهيوني العنصري، ويؤجج الجدل حول من يتحمّل المسؤولية عن هذا الإخفاق غير المسبوق، الذي سقط نتيجته نحو 4200 بين قتيل وجريح، فضلا عن اهتزاز ثقة الصهاينة بمنظومتهم الأمنية والعسكرية وقدرتها على حمايتهم.
ويُسجَّل الإخفاق الأكبر للأجهزة الأمنية في إخفاق الاستخبارات العسكرية للاحتلال الصهيوني (أمان) والمخابرات العامة (الشاباك)، في توقّع العملية أو الوصول إلى معلومة بشأنها، وما زاد من مرارة هذا الإخفاق الاستخباراتي، في دولة طالما تبجّحت بقوة أجهزتها الأمنية، وقدراتها التجسسية حول العالم على المستويين التقني والبشري، وجاء هذا الإخفاق من قطاع غَزَّةَ الذي تراقبه هذه الأجهزة؛ وتجمع المعلومات عنه على مدار الساعة؛ بمختلف الوسائل البشرية والألكترونية.
أما الإخفاق الثاني الكبير فتمثَّل في هشاشة الجدار الأمني الذي بنته دولة الاحتلال حول غَزَّةَ، وراهنت على قدرته في منع المقاتلين الفلسطينيين من اختراقه، حيث تمكن مقاتلو حماس من اختراقه والعبور من خلاله بأعداد كبيرة إلى أكثر من 20 مستوطنة وثكنة عسكرية.
لقد بنت دولة الاحتلال منذ انسحابها الأحادي من قطاع غَزَّةَ، جداراً من الإسمنت المُسَلّح على طول حدود القطاع البالغة نحو 65 كيلومتراً، وبعمق تسع أمتار في باطن الأرض، وتسع أمتار فوقها، ونصبت فوقه أحدث أجهزة الرقابة الألكترونية، كما أقامت عليه أبراجَ مراقبةٍ في مواضع مختلفة لرصد كل حَركةٍ خَلْفَهُ.
وتَمَثَّلَ الإخفاق الثالث في إخفاق الجيش الصهيوني في حماية قاعدته العسكرية الواقعة بالقرب من الحدود الشمالية لقطاع غَزَّةَ، وفي حماية النقاط العسكرية العديدة وأبراج المراقبة الممتدة على طول حدود القطاع، فضلا عن إخفاقه في حماية أكثر من 20 مستوطنة واقعة في غلاف القطاع داخل ما يسمى ’’الخط الأخضر‘‘؛ إذ تمكنت الوحدات العسكرية لحماس من اقتحامها وفرض سيطرتها عليها، مُوْقِعَةً خسائر بقوات الجيش الصهيوني وأجهزة الأمن المختلفة.
ويبدو أن هذا الهجوم المباغت الذي شنّه المقاتلون الفلسطينيون، وأداءهم الجريء والعالي، وقدراتهم التنظيمية، وخبراتهم العسكرية، قد تسبّب بشلل القيادة العسكرية والسياسية لدولة الاحتلال وأفقدها توازنها، على الرغم من تبجّح الجيش الصهيوني المستمر بجاهزيته الدائمة لمواجهة كل الطوارئ والاحتمالات وقدرته على حشد ما يكفي من قوة لمواجهة أي هجوم خلال ساعات من وقوعه، فإنه لم يخفق في حماية قواعده العسكرية فحسب، وإنما أخفق أيضًا في التدخل سريعا لاستعادة المواقع العسكرية والمستوطنات الصهيونية التي سيطر عليها المقاتلون الفلسطينيون، وظلوا يتحركون فيها لمدة لا تقل عن يومين، بينما يستغيث المستوطنون الذين كانوا يختبؤون في أجزاء منها.
أما الإخفاق الرابع فقد تمثل في إخفاق الجيش الصهيوني وأجهزة الأمن المختلفة في تأمين الدفاع عن حفل ترفيهي شارك فيه بضعة آلاف من الشبّان الصهاينة، وقد أقيم الحفل في أرض مفتوحة تبعد عن حدود قطاع غَزَّةَ بضعة كيلومترات بالقرب من قاعدة عسكرية، بعد حصول أصحابه على جميع التصاريح الأمنية المطلوبة؛ وعلاوة على ذلك، تسبّبت عملية حماس بشلّ قدرة المؤسسة العسكرية لدولة الاحتلال على اتخاذ القرار والتجاوب مع متطلبات الوضع الأمني والعسكري، وامتد الارتباك إلى مؤسسات الدولة الأخرى التي أقعدتها صدمة الهجوم عن التعاطي سريعا مع نتائجها، بما في ذلك الوصول المتأخر إلى القتلى والجرحى، والإخفاق في تقديم المعلومات الأولية لأهالي القتلى والجرحى والمفقودين، حتى بعد مرور عدة أيام على بدء العملية.
أما عن ردّات فعل الحكومة الصهيونية وحساباتها فقد أعلن بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الصهيونية، بعد مشاورات مع قادة الجيش وأعضاء في ’’الكابينت‘‘ الأمني؛ أن الدولة العِبْرِيَّة باتت في حالة حرب، ودعا إلى إنهاء الخلافات داخل المجتمع الصهيوني، كما أعلن وزير الأمن استدعاء أكثر من 300 ألف من قوات الاحتياط، استعدادا لشنّ حرب على قطاع غَزَّةَ، وحشد قوات كبيرة في الجبهة الشمالية تَحَسُّبَاً لإمكانية تفجّر الوضع العسكري على الحدود مع لبنان.
وفي اليوم نفسه، اجتمعت حكومة الاحتلال وكَلَّفت ’’الكابينت‘‘ السياسي الأمني المكوّن من 11 وزيراً باتخاذ القرار بشنّ الحرب أو عملية عسكرية كبيرة.
وفي ضوء اهتزاز ثقة الصهاينة بالحكومة والجيش، تزايدت المطالبة بتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة طوارئ، وتعززت هذه الدعوات بعد اتضاح حجم الخسائر الكبيرة التي وقعت في صفوف الصهاينة، وتنامي الرغبة في رأب الصدع وتقليص الخلافات التي عصفت بالمجتمع الصهيوني في السنوات الأخيرة، والحاجة إلى ضمّ ذوي الخبرة من القادة إلى دائرة صنع القرار، وبخاصة العسكريين.
’’الكابينت‘‘ الجديد عليه مواجهة قرارات صعبة قد يتخذها؛ وفي مقدمتها تحديد هدف هذه الحرب بدقة، فثمَّة شبه إجماع بأنه ينبغي ألا تكون مثل الحروب السابقة التي شنتها دولة الاحتلال ضد غَزَّةَ، وينبغي تغيير الاستراتيجية تجاه غَزَّةَ وحماس تغييرا جذريا بهدف القضاء على حُكْمِهَا كما يقولون، بَيْدَ أن تحقيق هذا الهدف يستدعي احتلال قطاع غَزَّةَ أو أجزاء واسعة منه؛ لأن الدولة العِبْرِيَّة لن تستطيع حسم الحرب من الجو مهما دمرت من منشآت ومبانٍ ومهما ارتكبت من مجازر، وحتى إذا اختارت دولة الاحتلال أن تجتاح القطاع براً، فسوف يترتب على ذلك خسائر فادحة في حرب مُدُنٍ تتقن حماس خوضها، أضف إلى ذلك أن قوات المشاة في الجيش الصهيوني غير جاهزة بما يكفي لخوض حرب بَرِيَّة، فثمَّة فرق كبير بين ما تفعله في الضفة الغربية، حيث تقوم بدور الشرطة وتواجه مجموعات غير مُدربة عسكريا وتستعمل أسلحة قديمة، وبين ما يمكن أن تواجهه في غَزَّةَ، حيث الوحدات العسكرية التابعة لحماس والفصائل الأخرى متمرسة في قتال المُدن وتملك أسلحة أفضل وتكتيكات عالية الفعالية، ويبدو أن دولة الاحتلال استعاضت عن تطوير قواتها البرية في السنوات الماضية بالاستثمار في سلاح الجو و’’السايبر‘‘ والاستخبارات؛ لذلك من المرجّح أن تتمهل في شنّ هجوم بري واسع النطاق على قطاع غَزَّةَ، على الرغم من القوات الكبيرة التي تحشدها على حدوده.
وتأمل الدولة العِبْرِيَّة في أن يقود اجتياح قطاع غَزَّةَ أو أجزاء منه إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين الفلسطينيين وتحاول ارتكاب المزيد من المجازر بحقهم؛ ما قد يغيّر مواقف الدول الكبرى التي تدعم حاليا الكيان الصهيوني بقوة، وتسعى على ما يبدو من خلال حملة القصف الجوي المكثّف إلى تهجير السكان، وتأليبهم على حُكْمٍ تسبّب لهم بالحصار والحروب والكوارث، وفق الإعلام الصهيوني وماكينته الإخبارية، بحيث يرحّب الأهالي بأي حُكْمٍ بديل، وهذا لن يتحقق لإيمان الفلسطينيين بعدالة قضيتهم وتماسكهم خلف حماس.
وإذا ما انتهت الحرب من دون القضاء على حُكْمِ حماس، حتى لو تَكبَّدت الحركة خسائر فادحة، فستواجه القيادة في دولة الاحتلال إخفاقاً ذريعاً آخر؛ يضاف إلى سلسلة إخفاقاتها الاستراتيجية؛ فبقاء سلطة حماس يعني العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل عملية طوفان الأقصى التي ستظل تؤرق حياة الصهاينة لعقود من الزمن.
كما تتمثل الفرضية الأساسية لدى القيادة الأمنية والسياسية الصهيونية في أنَّ حزب اللَّات الإيراني لن يدخل في هذه الحرب، وبأن قوته العسكرية مُعَدَّة للدفاع عن مشروعه في سورية ولبنان والمشروع النووي الإيراني، ولكنه لن يمنع فصائل فلسطينية موجودة في لبنان من القيام بعمليات عسكرية محدودة عبر الحدود، وسيحافظ على معادلة الردع القائمة بينه وبين الكيان الصهيوني المسرحية؛ من دون الدخول في حرب شاملة ضدها.
ختاماً:
يُمَثِّلُ مصير الأسرى الصهاينة من المدنيين والعسكريين الذين تحتجزهم حماس وبعض الفصائل المقاومة في غَزَّةَ؛ عُقدةً مهمةً في حسابات العملية العسكرية التي تعتزم دولة الاحتلال تنفيذها في غَزَّةَ، وتذهب التقديرات إلى أنَّ عددهم يصل إلى 150 أسيرا؛ على أقل تقدير، وهو عدد كبير لم تتعرض الدولة الصهيونية لمثله في حروبها السابقة على الإطلاق منذ قيامها.
ويولي الرأي العام الصهيوني أهمية قصوى لمصيرهم، وهو أمر يُضعف تحرك حكومة الاحتلال ضد غَزَّةَ، وبناءً عليه؛ حاولت حكومة الاحتلال إعطاء انطباع بأنها ذاهبة باتجاه استعادة هيبة الردع التي فقدتها، حتى لو أَدَّى ذلك إلى التضحية بالأسرى، وقد جاء هذا الموقف نتيجة إدراكها أنها لن تستطيع استعادتهم أحياءً من دون عقد صفقة مع حماس، تشمل الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الصهيونية، وحكومة الاحتلال غير جاهزة حاليًا لعقد مثل هذه الصفقة التي لا بُدَّ منها.
المراجع
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – 12/10/2023م.
مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_سياسية_محمد_فاروق_الإمام_وَقُهِرَ_الجيش_الذي_لا_يُقْهَر