الخميس, يناير 9, 2025
spot_img
الرئيسيةتقدير موقفالثورة السورية بين الغفران والإثخان

الثورة السورية بين الغفران والإثخان

مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تقدير_موقف_عطيَّة_عدلان_الثورة_السورية_بين_الغفران_والإثخان

بين البشارة والنذارة تتردد قُلوبُنا، وتروح وتجيء عقولُنا، وتتوزع مشاعِرُنا وأحاسيسُنا، وذلك بعد النصر الذي تحقق لشعب سورية على أيدي أبنائه الصادقين الصامدين، فلَكَمْ سعدنا واستبشرنا بالفتوح التي توالت وانطلقت بخفّة وسرعة وقوة تطوي الأرض من تحت أقدام الطغاة طيًّا! ولَكَمْ ابتهجنا واغتبطنا بذلك المستوى الراقي من مفردات الرشد والنضج والوعي وسعة الصدر ومرونة التعاطي، تلك السمات التي جاءت كحبات الدر والياقوت فوق تاج البطولة! وفي المقابل: ما أشدّ ما نعانيه ونقاسيه من المحاذير التي تتجدد وتتمدد مع كل يوم يمرّ على سورية وهي متروكة كالعروس التي طال وقوفها في عرض الشارع بينما الحسّاد الطامحون الطامعون من حولها متربصون! فما الرأي؟ وكيف السبيل؟  

هل يتنافى المطلوب واقعاً مع المأمور به شرعاً؟

ما هو المطلوب واقعاً؟ هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه أولاً، فإذا تمت الإجابة عليه بصدق وحيادية وتَجرد؛ فلا أتوقع أن نجد الشرع واقفاً منه على النقيض والضدّ؛ لأنّ الأصل هو أنّ الشريعة موضوعة لمصالح العباد في المعاش والمعاد، ولا يعني هذا أنّها متطاوعةٌ مع اجتهادنا أيًّا كان، أو تابعةٌ لرأينا أينما توجَّه، وإنّما يعني أنّها من المبتدأ لم تأت أحكامها مُعَوِّقةً لمسار المصلحة الحقيقية؛ فإن بدا تعارض فإنّ سببه أحد أمرين: أن يكون فهمُنا لِلحُكْمِ الشرعيّ غير صحيح أو أن يكون فهمُنا للواقع غير صحيح.

والمطلوب واقعاً أمران متقابلان لا يختلف فيهما عاقلان، ولا عبرة بنظر العميان، الأول: استخلاص سورية دون غرق في حروب طويلة ودماء كثيرة تعطي الفرصة لتدخل قوى متربصة، الثاني: القصاص العادل الناجز من المجرمين وكسر شوكة الإجرام واجتثاث جذوره، فأمّا الأول فقد تحقق كلُّه أو جُلُّه بحمد الله، وما كان ليتحقق على هذا النحو من السرعة ومن النظافة التي ألجمت المتربصين لولا أنّ الله وفق الفاتحين إلى استراتيجية ’’اذهبوا فأنتم الطُّلقاء‘‘، والعفو عن كل من ألقى سلاحه، وهي في الحقيقة ليست استراتيجية دعوة وتسامح بقدر ما هي استراتيجية فتح وتحرير واحتواء للقوى المناوئة، ولهذا المنهج أصل في سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم معروف ومشهور، لاسِيَّمَا والحال حال اضطرار لا حال اختيار، وقواعد السياسة الشرعية التي تسكن هذه المساحة من التصرفات تتسع في حال الاضرار لما لا تتسع له في حال الاختيار.

وأمّا الأمر الثاني فلم يتحقق بعد، ولا بُدَّ من تحقيقه؛ لأنّ القرآن الكريم رسم استراتيجية القتال في المراحل الأولى من المواجهة مع الباطل، وذلك في سورة القتال التي تُعَدُّ من أوائل ما نزل بالمدينة، هذه الاستراتيجية هي: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ‌فَضَرْبَ ‌الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها)، وفي سورة الأنفال التي نزلت في السياق ذاته تأكيد على هذه الاستراتيجية:

(‌مَا ‌كانَ ‌لِنَبِيٍّ ‌أَنْ ‌يَكُونَ ‌لَهُ ‌أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، والمقصد هو كسر شوكة الكُفر في المرحلة الأولى حتى لا تلتفّ الحية فتلقف ما أنجزه المجاهدون من فتوح، وهذا المقصد يكفي لتحققه أن يُقام القصاص الناجز – لا العدالة الانتقالية – من أئمة الإجرام، والاكتفاء بذلك ليس اقتصاراً على تحقيق المقصد وانحساراً عن تنفيذ الحُكْم الشرعيّ، وإنّما هو تحقيق للمقصد من خلال تنفيذ ما يمكن تنفيذه من الحُكْمِ، ولسنا نقول بتسويغ تجاوز الحُكْمِ بذريعة تحقق المقصد؛ لأنّ المقاصد والأحكام شيء واحد، وإنّما نقول إنّ الأحكام الشرعية تراعي حال الاضطرار، ومن قواعد الضرورة: قاعدة ’’الميسور لا يسقط بالمعسور‘‘، فإذا فعل الثوار هذا فهو كاف في القيام بالحُكْمِ وفي تحقيق مقصده.

ما الخطر الحقيقيّ الذي يُخشى منه؟

بالأمس القريب خرجت مشيخة الطائفة العَلَوِيَّة ببيان، يكفي مجرد سماعه دون انتباه ولا تركيز لإثارة المخاوف، إنّهم بلغوا من التوقح والتبجح حدّ المطالبة بالعفو عن الضباط العَلَوِيِّين، وإنظار الإدارة العسكرية ثلاثة أيام لتحقيق المطلب، وإلا فَهُم مستعدون لإعداد فرق من الشباب للدفاع عن الطائفة، هذه الصفاقة لم تُولد إلا من رحم الاستهزاء بالعفو العام، وهذا إنذار مُبَكّر أخطر من كل إنذار وقع بما في ذلك مسيرة العلمانيين الفارغين، هذه هي شرارة الثورة المضادة الحقيقية، وأخشى إن أبطأ الثوار في ردّ هذا البيان في أجواف قائليه بإقامة القصاص الناجز من المجرمين؛ أن تتوالى مفاجآت الثورة المضادة فَتُعكّر الأجواء قبل أن يُقام البناء، ولكي يسهل هذا على الثوار يجب أن ينظم الشعب مسيرات بالتنسيق مع القيادة العسكرية، تطالب بالقصاص العاجل الناجز، ويواكب ذلك حملة نشر لقبائح هؤلاء المجرمين في الصحف العالمية؛ ليكون مطلباً شعبيًّاً لا مُجرد مقتضى من مقتضيات الحرب والصراع.

 وإذا كان التعجيل بالخروج من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار ضرورة حتمية؛ لتفويت الفرصة على المتربصين، فإنّ هذا المسار السياسيّ كله إذا لم يكن بمحاذاته – إن لم يكن سابقاً له – مسار ثوريّ مستمر؛ فإنّ النتيجة ستكون حتماً مرتبكة ومُرْبِكة إلى حدّ كبير، ومن هنا نؤكد على ضرورة تسريع خُطى المسار الثوريّ؛ ليتم مهمته ويوسع للمسار السياسيّ لكي ينجز هو الآخر مهمته بأسرع وقت ممكن، فإنّ الوقت ليس في صالح الثورة بحال، وكل يوم يمر يضيف نقاطًا في خانة الثورة المضادة، والمطلوب من المسار الثوريّ كثير، منه ما تقع تبعته على الإدارة العسكرية، وهو القصاص والإثخان، ومنه ما تقع مسئوليته على العلماء والمفكرين والدعاة والسياسيين بالتعاون مع الحكومة المؤقتة، وهو إنشاء مؤسسات المجتمع قبل قيام مؤسسات الدولة، كالجمعيات الأهلية والنقابات والاتحادات الطلابية وروابط العشائر السُّنِّيَّة، وإعادة هيكلة الأوقاف الأهلية وغيرها، ومنها ما هو فَرْض على الشعب المهاجر، وهو العودة لملء الفراغ الديموغرافي وحماية الثورة ومكتسباتها، ويجب أن يعلم هؤلاء أن التربص لحين استقرار الأوضاع سلوكاً على الأقل ليس إيجابيًّا، فهذا أوان التكاتف لبناء سورية الجديدة، فلا بُدَّ من عودة المهاجرين والأموال المهاجرة.

أسأل الله أن يتم نصره لشعب سورية الحبيب إلى قلوبنا، وأن يجعله فاتحة خير على الأمة كلها.

(سبحان ربِّك ربِّ العزة عمّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمدُ لله ربّ العالمين)

_______

د.عطيَّة عدلان: أستاذ الفقه والسياسة الشرعية.

تقدير الموقف هذا يُعَبِّرُ عن رأي كاتبه ولا يُعَبِّرُ بالضرورة عن رأي الموقع.

مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_تقدير_موقف_عطيَّة_عدلان_الثورة_السورية_بين_الغفران_والإثخان

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات