مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_سياسية_عبد_الستار_الراوي_العقل_السياسي_الإيراني_المعاصر_الحلقة_الثانية
منطق الفكر ومنهج العمل
وفقا لما تم ذكره في الحلقة الأولى؛ فقد أصبحت مطلقات ولاية الفقيه تعني إخضاع مؤسسات الدولة وسلطاتها للمرشد الأعلى ولا تقف هذه الصلاحيات عند حدود العلاقة الروحية والمرجعية الدينية، كما هو الحال بالنسبة لعلاقة المسيحيين بمرجعية الفاتيكان الدينية، على حد قول السيد علي الأمين ولكن يتعداها إلى لزوم الطاعة والانقياد للولي الفقيه في سياساته الداخلية والخارجية وتطلعاته الأخرى الخارجة عن الحدود الجغرافية لنظامه ودولته وتشد هذه الاشكالية وتكبر عندما تعطى ولايته مضمون الأيديولوجيا الدينية العابرة للحدود والأوطان حيث يصبح ارتباط حزب ولاية الفقيه بالولي الفقيه ولاء سياسياً لدولة الفقيه، التي لا يحمل الحزب الموالي لها هويتها الوطنية وشخصيتها القانونية.
مثلت نظرية ولاية الفقية كأطروحة بنيوية في الفكر الديني؛ إحدى القضايا الهامّة في المساجلات الجدلية حول التجربة السياسية الايرانية، بما أثارته من إشكاليات برزت عقب الثورة بفترة وجيزة حيث ظهرت المعارضة من قلب المؤسسة الدينية، فكان شريعتمداري أبرز أنصار هذا الاتجاه الذي فرضت عليه الإقامة الجبرية بمنزله حتى وفاته 1986. فيما جاء الرفض الأشد من القوى الوطنية والاجتماعية المشاركة في الثورة، من أقصى اليسار إلى خاتمة اليمين. إلا أنَّ آية الله الخميني بما كان يتمتع به من زعامة سياسية وروحية استطاع أن يُجْهِزَ على معارضي نظريته، وقد ساعده في ذلك، الحرب على العراق، التي أحالت التناقضات الرئيسة الكبرى، إلى خلافات صغيرة، مما جعل غالبية قوى المعارضة، تؤجل أو تعلق خلافاتها حول نظرية ولاية الفقية إلى مابعد الحرب، وإلى مابعد رحيل الخميني، ليعود الجدل إلى الساحة مجددا مع تولي آية الله علي خامنئي السلطة، مُوَلِّدا صراعا سياسيا داخل مؤسسات الحكم في إيران، وبدأ في الظهور اتجاه لم يكن معارضا فقط للحد من صلاحيات الإمام الدستورية والدعوة لانتخابه أسوة برئيس الجمهورية بل طالب بتعديل نظرية ولاية الفقية نفسها والتي أراد نظام الثورة أن تشكل أيديولوجية متماسكة ومتكاملة لتجربته السياسية في إدارة الحكم وقيادة المجتمع.
وفي إطار ذلك، شهدت الساحة السياسية الإيرانية جدلا واسع النطاق بين أنصار التيار المعارض لنظرية ولاية الفقية، والتيار المحافظ الذي يسانده المرشد الأعلى، واتسعت مطالب تيار الإصلاحيين، فلم تقتصر فقط علي ولاية الفقية، بل طالبوا بالإصلاح وبالمزيد من الحريات والاقتراب من عقلانية الدولة والبعد عن منطق الثورة، ومن أبرز أنصار هذا التيار آية الله حسين منتظري، عبدالله نوري وزير الداخلية، هاشم أغاجاري الذي حُكِمَ عليه بالإعدام في أواخر2000 بعد مطالبته بإصلاح المؤسسة الدينية، وتم إلغاء حكم الإعدام في فبراير2003 من جانب آية الله علي خامنئي تحت ضغط المعارضة والمظاهرات التي طالبت بالإفراج عن زعماء التيار الإصلاحي وإلغاء الأحكام الصادرة ضدهم.
وبذلك مثلت قضية ولاية الفقية قمة جبل الجليد الذي يخفي تحته خلافات سياسية جذرية بين التيارين المحافظ والإصلاحي حول قضايا سياسية مهمة تتعلق بهوية النظام السياسي الإيراني ومكانة المؤسسة الدينية في أسس شرعيته وحركة مؤسساته ونظام القيم العام الذي يحكم سلوك وأخلاقيات المجتمع، ومدى كفاءة وفعالية نظام الثورة الإسلامية مع مطالب البيئتين الداخلية والخارجية وتوقعات أفراد الشعب لمزيد من التنمية والحرية، كل ذلك لا يمكن فصله عن الأيديولوجية السياسية لنظرية ولاية الفقية ومدى جدارتها السياسية في تمثيل الأساس الشرعي لدولة عصرية في إيران تستطيع أن تتعامل بكفاءة وفاعلية مع متطلبات التطور العصري نحو مزيد من الديمقراطية والحرية والمشاركة السياسية لكافة فئات المجتمع الإيراني وطوائفه... وكان الحراك الشعبي الواسع في صيف 2009 الذي عرف بـ (الثورة الخضراء) قد جسد معارضة لم يعدها النظام من قبل، سواء من حيث الكم أم الكيف . اختلطت فيها الأوراق وبشكل غير مسبوق، بين مراكز القوى المتعددة التي تتميز بها الهرمية المعقدة للسُلطة في إيران، بما في ذلك مؤسسة ولاية الفقيه القوية والمسيطرة منذ انتصار الثورة (1979). لقد طرأ تغيير نوعي في المشهد الإيراني برمته. فالمرشد الأعلى، يعلن انحيازه علانية إلى صف محمود أحمدي نجاد، ليس فقط عشية الانتخابات، بل وحتى قبل أن يحسم مجلس صيانة الدستور اسم الفائز في الانتخابات. وتكرر ذلك في خطبه اللاحقة، حيث لم يكتف المرشد بانحيازه إلى مرشحه المفضل، بل انساق وراء نظرية المؤامرة حين اتهم الغرب، بالتدخل في الشأن الداخلي الإيراني، وتحريض الإيرانيين على التظاهر، بعد أن طالب الغضب الشعبي بإسقاط ولاية الفقيه.
وقد تجدد التناقض الرئيس الذى تواجهه التجربة السياسية في ايران بين خطين متقاطعين. أحدهما؛ يمثل الشعب بجماهيره، وهو بهذا المعنى يمثل الثورة. فالثورة بالمعنى المباشر والحقيقى هي الشعب فى حالة ثورة، كما حدث في صيف 2009 والذي عاد مرة أخرى في يناير 2011. أما الخط الثانى فيتمثل فى السلطة الكُلِّيَة لولاية الفقيه.
ولذلك فإن تطور التناقض الرئيسي، استولد جملة من الصراعات الثنائية اتخذت في البدء طابعا نظريا من بينها؛ (الثورة والدولة، المثالية والواقعية) ثم الاصطدام بين كتلتين متنافرتين، (المحافظة والاصلاحية) ومحاولة كل منهما إعادة صياغة الآخرى. ليستحيل الصراع هذه المرة بقوة التناقض الأساسي ليصل إلى مستوى التحدي الفاصل بين خندقين الشعب والنظام السياسي .
السُلطة الدينية تجزم بعناد أنها صاحبة الثورة الإلهية والأمينة على رسالتها، وأنها وحدها المعنية بالعالمين الديني والدنيوي. فيما يرى الجمهور بأن ولاية الفقيه، تعيش في عصر ثمانينيات القرن الماضي، لم تدرك بعد أن الواقع يتغير من حولها، وأنَّ قوانين الحياة وصيرورتها تقضي أن تكون إيران جزءا من الصورة الجديدة لعالم اليوم.
ولاية الفقيه وآفاق المستقبل؛ إن حدود وصلاحية الولي الفقيه ما زالت من أكثر النقاط جدلا بين الفقهاء الشيعة أنفسهم، وبين السياسيين الإيرانيين جميعا، فالأدلة النقلية والعقلية إذا استطاعت أن تقنع أنصار الولاية بوجوبها، فإن صلاحيات الولي وحدود الولاية بقيت أمرا عصيا على الاتفاق وأثارت جدلا في المذهب الشيعي عامة وفي البيت الداخلي الإيراني خاصة وأخرجت منه صيغة المحافظين والإصلاحيين.
السؤال هنا: هل نظرية ولاية الفقيه، جسّدت في مضمونها وتطبيقاتها على الأرض (وبعيدا عن الاستهدافات الحقيقية لمنتجها ومؤسسها) شعارات الثورة الإيرانية، الحرية والاستقلال والجمهورية، ومجمل الحقوق العامة للشعب، المثبتة في الدستور الإيراني، أم عملت على إنتاج طبقة أو شريحة دينية / سياسية حاكمة، عمدت (أو جزء مهم منها) إلى توظيف الأيديولوجيا الدينية والمذهبية (المقدس) المنغرسة عميقا لدى الجماهير، وفقا لمصالحها النفعية والسياسية الدنيوية (المدنس)؟
ذلك هو المأزق الذي يواجه التجربة الايرانية القائمة بين مثالية الرؤى السياسية والشعارات الثورية وبين حرارة الواقع الاجتماعي، تعبيرا عن انقطاع التواصل بين مقام الحاكمية العليا وجماهير الشعب.