مركز_أمية_للبحوث_والدراسات_الاستراتيجية_مقالات_سياسية_عبد_الستار_الراوي_العقل_السياسي_الإيراني_المعاصر_الحلقة_الرابعة
مفاهيم الفكر ومصطلحات الثورة
(القسم الأول)
أولا: تتطلب مهمة التعرف على العقل السياسي الإيراني البحث أولا عن ماهية مكوّنات جهازه المعرفي، وآليات عمله، والوقوف على سُلّم خياراته، وأساليبه في مواجهة المعضلات وطريقة معالجته لها. ويتطلب الإلمام بهذه المحددات، الكشف عن الرؤية الفلسفية المتمثلة في بناء واستحداث المفاهيم والمصطلحات بوصفها مفاتيح أساسيا ينطلق منها العقل السياسي في تحليل القضايا وتركيبها، وفي صياغة مواقف الحاكمية الولائية وسياساتها وكيفياتها سواء في قيادة البلاد أم في إدارة السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، ويقضي ذلك أيضا ضرورة تتبع (الأصول) الدينية – السياسية التي صدرت عنها المفاهيم والمصطلحات وصلتها بـ (الزمان والمكان).
ثانيا :وبالقدر نفسه، فإن الإلمام بلاهوتيات الولاية، وبمنهج عملها السياسي يفترضان الكشف عن منطق العلاقات التبادلية بين النظرية والتطبيق، لبيان مدى المسافة الخلافية بين الثنائيات المتنازعة:
- الإصلاح والمحافظ.
- حاكمية الفقيه والوظيفة الرسمية لرئيس الدولة.
- مثالية المفاهيم والواقعية الصلبة.
وعلى هذا الأساس فقط، ومن غير إقحام أي من المحددات المسبقة، أو تبني الآراء الشائعة، يحاول هذا البحث الاقتراب من ماهية العقل السياسي القائد، عن طريق بسط واقع التجربة وتحليل الاتجاهات السائدة، بقصد الاقتراب الموضوعي من آلية حركتها في الداخل، وطبيعة صلاتها بالعالم الخارجي، والإطلال على آفاقها المستقبلية.
ثالثًا. المنهج: اتبعنا في تنظيم الأفكار وتحليلها الخطوات المنهجية الآتية:
- اللجوء إلى (النصوص الأساسية) لقادة التجربة الإيرانية، من مظانها ومرجعياتها الرسمية، لضمان الدقة الموضوعية في عرض المفاهيم وبسط الأفكار.
- التحفظ على الأحكام المسبقة التي أطلقها مؤيدو ولاية الفقيه وخصومها داخل إيران وخارجها.
- تدقيق الآراء، وإعادة فحص وتحقيق نتائج بعض الدراسات الأكاديمية في تقويم ثورة 11 شباط 1979.
- التخلي عن الأساليب الإعلامية ذات الطابع الدعائي والتعبوي.
- اتباع مبدأ (الحياد الموضوعي) الذي يحتمه منطق البحث العلمي، والالتزام بقواعده العامة قدر الإمكان.
- اعتماد (العلّية) في استقصاء الدواعي، وتحديد الأسباب، عبر العلاقة المنطقية بين العلة والمعلول.
- مراعاة (النسبية) في تحليل الأفكار ومضامين الخطاب، طبقًا لشروط (النص) ودواعيه التاريخية.
- اللياقة العلمية، التي تقتضي تجنب إقحام الذاتي الخاص في الموضوعي العام.
رابعا. المفاهيم والمصطلحات:
- الإسلام السياسي:
أحد المصطلحات الذي تبنتها الثورة الإيرانية في خطابها السياسي، فهي لا ترى ثمة فاصلة بين (الإسلام والسياسة)، فـ (الإسلام دين عبادته سياسة وسياسته عبادة)، فلا انفكاك لأي منهما عن الآخر، بل يمثلان في نهاية الأمر حقيقة واحدة.
لعل السيد الخميني من بين رجال الدين الأوائل الذين حاولوا في وقت مبكر من القرن العشرين، وعلى وجه التحديد عام 1941، الدعوة إلى تسويغ استخدام المصطلح السياسي للإسلام، ونشر ذلك وترويجه في أوساط الحوزة العلمية في (قم)، من خلال كتابه ’’كشف الأسرار‘‘ الذي يوثق منهجه منذ ذلك الوقت، ففي رأيه ’’أن الدين سياسة‘‘، وأن هذا الأمر من بديهيات العقل، وأن من الصعب التحدث عن الدين بمعزل عن السياسة.. وأن النبي محمد (ص) كان يمارس العمل السياسي، وكذلك فعل الإمام علي، وأن من يزعم افتراق الاثنين، أو يعمل على المباعدة بينهما فهو مخطئ، أو جاهل. وأن دعوى فصل الدين عن السياسة، لم تصدر إلا من (البيت الأموي) وعلى ألسنة حكامهم وتضاعفت هذه الدعاوى خلال العهد العباسي، وعادت في زماننا بعد أن مهّد لها الاستعمار الحديث، لذا فإن ممارسة العمل السياسي لرجل الدين مسألة أساسية.. وإن الإسلام لا ينحصر في العبادات وحدها، ولا بارتداء زي رجال الدين، وإنما بالعمل
- إصلاح العالم:
(نستطيع بهذه القوة القليلة المسلّحة في هذا البلد ’’إيران‘‘ إصلاح العالم كله)
إن مقولة (إصلاح العالم) امتداد للمطلقات الماورائية، والتفكير النخبوي الذي تتسم به دعاوى أممية الولاية المتطلعة دائما إلى ما وراء حدود رقعة إيران الجغرافية، بدعوى نشر الفضيلة واقتلاع جذور الفساد في العالم كله، والزعم بأن ثورة 11 شباط هي ثورة الله، وأن الشعب الإيراني هو شعب مقدس وأرضه هي أرض الوعد الإلهي، هذه الدعاوى كلها وغيرها ساعدت على انسلاخ أنصار الفقيه عن واقعهم التاريخي، فبدؤوا يصطنعون لأنفسهم أدوارا مقدسة ومهمات كونية، ومسؤوليات إلهية تفصلهم عن معطيات الواقع فتجعلهم يدورون حول أنفسهم خارج الثورة والحياة والتاريخ.
- الأصول الثلاثة:
وهي الأصول التي أعلنها الخميني من باريس (11/11/1978) وأصر على ضرورة تنفيذها، بوصفها كلمة الثورة النهائية والأساس الأول لإقامة الجمهورية الإسلامية. وهذه الأصول هي:
أ ـ إنهاء حكم العائلة البهلوية. (أن رفضنا لحكم العائلة البهلوية واضح الحجة والشعب يؤيدنا فيه، فالمطلب شعبي إذا نظرنا إليه من زاوية حق الشعب – جميع أبناء إيران أطلقوا صرخات المطالبة بذلك وما زالوا يطلقونها في الشوارع).
ب ـ إزالة الحكم الملكي إلى الأبد. (بسبب انحراف النظام الملكي من الأساس، وهو ما يؤيده كل عاقل، تصورا وتصديقا بأن هذا النظام ليس سليما، فحق الانتخاب يجب أن يكون بيد الشعب، لا أن يجعل شخصا آخر سلطانا على آخرين يمسك بزمام أمورهم ومقدراتهم، يجب أن يكون أمر كل شخص بيده، كما يجب أن تكون مقدرات هذا الجيل بيد أبنائه لا بيد شخص كان قبل سبعمائة عام. لا وجود له اليوم. في حين أن نظام رئاسة الجمهورية يعني أن تكون المقدرات بأيدي الشعب نفسه الذي ينتهي عمله فينصب الشعب شخصا آخر..(
ج ـ وضع أسس إقامة الجمهورية الإسلامية ومقدماتها. (أما أصلنا الثالث فهو أننا نطالب بإقامة الحكومة الإسلامية، جمهورية إسلامية نرجع فيها إلى آراء الشعب كما أننا نحدد شروطها أيضا وهي شروط مذكورة في الإسلام ونقول للشعب: يجب أن تنتخبوا الشخص الذي تتوفر فيه الشروط، فلا يصح أن ينصبوا أي شخص إلا إذا كان بتأييد الناس(.
- الإعلانات الأممية:
ـ ’’يا مسلمي العالم، يا مستضعفي العالم، انتفضوا، وتولّوا مصائركم بأيديكم‘‘.
ـ يا محرومي العالم ومظلومي التاريخ انهضوا ولا تنتظروا أن يبادر الظالمون إلى إطلاقكم من القيد.
ـ على المستضعفين في جميع أنحاء العالم أن يهبوا لأخذ حقهم بأيد واثقة وأن لا ينتظروا من أولئك أن يعيدوا لهم حقهم، فإن المستكبرين لن يعيدوا لأحد حقه.
ـ ’’يا مستضعفي العالم ويا مسلمي العالم.. انهضوا وحاربوا بأيديكم وأسنانكم لأخذ حقكم‘‘.
تشكل الاستعارات الحركية للتجربة الإيرانية آلية تقليدية، قد نعني بالشكل الخارجي، لكنها لا تدرك تناقض المضامين بين تجربتي إيران وماركسية ثورة أكتوبر، إذ يكاد أن يكون (الاختلاف) هو القسمة المشتركة الوحيدة بينهما.
لذا فإن الإعلانات المثالية التي ولع بإطلاقها الفقيه الإيراني منذ إقامته في العاصمة الفرنسية، كانت أقرب إلى (المحاكاة) الصورية على النحو الذي يظهرها محض نداءات رومانسية، ذلك أن (البيان الشيوعي) على سبيل المثال، لم يكن محض إعلان أممي مجرد، وإنما وثيقة برامجية للشيوعية عنيت بشرح أسس الماركسية، ورؤيتها للثورة والإنسان والمستقبل فيما اقتصرت أممية الخميني على (حلم ذاتي) يرى أن الثورة الإيرانية هي الممثل الوحيد للإسلام، دون أن تبسط شيئا من الأفكار الموضوعية المتماسكة، أو منهج العمل الذي يمكنها من تطبيق شعاراتها في الواقع الإسلامي.
- الإمام:
الإمام وصف آية الله الخميني بـ (الإمام) كان بمثابة إعادة إنتاج لنظرية الإمامة من بعد زوال البهلوية. وقد كثف الخميني جهده الأساسي لإعادة بناء مؤسسة المرجعية، فبعد انتصار الثورة ومكوثه القصير في طهران، اتجه إلى مدينة قم ليواصل فيها دوره المرجعي. مرجعية لها شأن سياسي، لم تتدخل في التفاصيل التنفيذية ولكنها تتولى ترسيم الخطة وكتابة السياسات العامة لنظام الحكم.
- الإمام القائد:
’’الحل الواقعي المعقول لاستمرار الإسلام بعد رحيل النبي (ص)، أن يجعل الله تعالى حراسا للدين، يكونون قد استوعبوا القرآن، وحفظوا حديث الرسول (ص)، وتمثلوا الإسلام بكل حواسهم وجوارحهم، وكانوا قدوة للناس في علمهم وعملهم، ليقوموا ببيان تفاصيل ما جاء به القرآن بحسب مقتضيات الزمان، ويصونوا الشريعة النبوية من التلاعب والتحريف، ويبادروا إلى تنفيذ أحكام الله تعالى، وهؤلاء الحراس هم الأئمة الذين خلفوا النبي (ص) في قيادة الناس وهدايتهم‘‘.
- الإمام المظلوم:
لقب أُضفي على (الخميني)، في ذكرى أربعينية رحيله. يلاحظ أن (الإحلال)، هو أحد أساليب (المحاكاة)، التي ينتهجها منظرو تجربة 11 شباط – فبراير، تقليدا لسجايا ومقامات (الأئمة الاثنى عشر)، وإسقاطها على الطبقة الأولى سواء في الدولة أو المؤسسة الدينية.. وأن (الإحلال).. من شأنه أن يفضي إلى تثبيت الطارئ (الثانوي)، وإقصاء (الأصيل) بـ (الاستبدال) المتعمد رمزا وتاريخا الذي من شأنه أن يهمل التفوق التاريخي أو حجبه عن الرمز الحقيقي، ليصبح من حق الأئمة السياسيين الجدد دون سواهم.
- الأنبياء والعدالة:
يقول الخميني: (أن الأنبياء جميعا بما في ذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لم ينجحوا في إرساء قواعد العدالة في العالم، وأن الإمام المهدي قد أبقي ذخرا من أجل البشرية، ونشر العدالة، وسينجح فيما أخفق في تحقيقه الأنبياء والأولياء والمرسلون).
من الواضح أن السيد المرشد يرمي إلى إظهار عصمة ولايته وتفردها السحري، في إصلاح العالم، التي تجاوز فيها بنية عقيدة الاثنى عشرية، وهو يستلب الوظيفة المهدوية، ليتحدث عن نشر العدالة فوق الأرض، وهو بهذا الإسراف المثالي، يطفئ الحركة، ويقرر نهاية التاريخ، بعبارة أخرى، لم يعد ثمة من معنى لعقيدة عودة الإمام من (غيبته)، فالجمهورية الإسلامية أزالت الظلم، وأنهت عصر المستكبرين، باعتبارها دولة العدل الشامل.. فالتجربة الإيرانية وحدها من يتحمل مسؤولية الرسالة المهدوية، والخميني وحده من سينهض ليملأ الأرض عدلا ورحمة، كما ملئت جورا وظلما، بصفته نائب الإمام وأن حجته – طبقًا لهذا التفويض- توجب عليه ممارسة صلاحيات الإمام الأصيل.
- التجربة المقدسة:
القداسة صفة ألحقت بتجربة ولاية الفقيه عبر جملة من الصفات الدينية السياسية:
أـ أم القرى: استعارة مجازية – كون (إيران)، في ظل ولاية الفقيه، أصبحت (البلد الآمن الأمين)!
ب- إيران أرض الوعد الإلهي: عبارة توجز حلم القادة الجدد، إذ يرى هؤلاء أن ثورة 11 شباط 1979، المكان المؤهل لنهاية التاريخ!
ج- مركز الحقيقة الإلهية: لا يكف المنطق الثيوقراطي عن توصيفات تجربته، والانبهار بشعاراتها، فلم تعد إيران في ظل الجمهورية الدينية، مركزا أمميّا للمسلمين، وإنما أصبحت أيضا دار الإيمان، تنفرد به دون غيرها من دول وأقطار المسلمين.
د- جنة المحرومين: صفة استعراضية أخرى للفردوس الديني على الأرض، ولعل الإيقاع العاطفي، هو وحده الذي يجعل الوعي يدور حول نفسه، فيلتقط الأماني العائمة، ويتجاهل الواقع من حوله، فلا يرى، إلا ما يشاء أن يراه، وتظل المفاهيم ذات التجريدات المثالية تفرض نفوذها على قادة ومنظري التجربة، وكأنهم في جزيرة منقطعة عن الزمان والمكان.
هـ – الهدية الإلهية: عبارة وصفية أطلقها الخميني حال قيام الجمهورية.
و ـ الهدية السماوية: ضرب آخر من الرمزيات التي أضفيت على جمهورية 1979.
10– الحدود الدولية:
أمام رسالة ولاية الفقيه الأممية تسقط كل سيادات الدول وترفع الحدود بين البلدان، ولا شأن للولي المرشد بالمفاهيم القانونية أو الأعراف الدولية المتعلقة بالقانون الدولي، فـ (ولاية الفقيه لا تعرف الحدود والأطر الجغرافية..) فيما يوجب الخميني على أتباعه التعبئة والاستعداد (لفرض سيادة إيران على بغداد) ذلك أن الإحساس بالحدود التاريخية الحقيقية التي يفرضها الواقع الموضوعي في زمن معين يأخذ لدى فقهاء التجربة الإيرانية بالتآكل والتلاشي ويحل محله الإحساس بالحدود اللاتاريخية (المقدسة الأزلية)، التي لا تُعرف لها بداية أو نهاية ولا يمكن تحديد رقعتها أو قياس أبعادها.
فـ (الحدود) قد تتحول، وتصل فجأة إلى بغداد، وقد تمتد إلى قلب بيروت، مرورا بسورية وشرقي الأردن، وقد تتجه إلى القاهرة، وتمضي غربا إلى ليبيا وتونس وعموم المغرب العربي.
وإزاء سمة التمدد الأيديولوجي، يزعم أنصار الخمينية أن البحرين وشط العرب والجزر العربية الثلاث والهامش الغربي من الخارطة العراقية – جزء من جسد الجمهورية الإسلامية!!، بل إن عقيدة الولاية واعتماداتها الفكرية تقوم بالأساس على بطلان الحدود؛ لذلك فإن مطالباتها مستمرة بإقرار ذلك، غير أن هذه الدعاوى التي بدأ الترويج لها منذ بداية الحادي عشر من شباط – فبراير 1979، تحولت فيما بعد إلى (عقيدة شبه ثابتة) في عقل كل من المرشد الإيراني الأول والثاني، كلاهما يؤمنان – بلا لبس أو غموض – أن العراق وأقطار الخليج العربي كافة هي (أقاليم إيرانية)، طبقًا للتبريرات والذرائع اللاهوتية التي اصطنعها الفقه السياسي لولاية الفقيه الذي يوجب على طهران استعادة مجد الدولة الكبرى، ويحتم عليها مهمة إعادة ترسيم حدودها السياسية تحت ذريعة (واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وبزعم أن الولي الفقيه وحده لا غيره ولا أحد سواه المعني بتنفيذ هذا الواجب بوصفه نائب الإمام، مما يلزم الشعوب الإسلامية تقديم فروض الطاعة المطلقة لولايته والاستجابة الفورية لتعاليمه والانقياد الكامل لأوامره؛ انطلاقا من مسألتين أساسيتين:
الأولى: إن إيران (دار الإسلام) و(مركز الإيمان) وعاصمة الله. أما الدول الأخرى فهي (دار كفر) يتوجب عليها الخضوع إلى ولاية إيران، والامتثال الكلي إلى مرشدها، وبخلاف ذلك يتعين على طهران إشهار السلاح وتجييش الجيوش، لفتح هذه البلدان وإعمال السيف في أعناق أبنائها.
الثانية: ليس ثمة فصل أو حدود في الدولة الإيرانية بين الدول الإسلامية كافة، وعليه تصبح هذه الدول خاضعة لـ (إيران الإسلامية)، أو تابعة لها.